ابتعد خطر الضربة العسكرية موقتاً لكنه لم يتلاشَ بعد. فالسوريون الذين لم يختبروا ويلات الحروب منذ نحو أربعين سنة، يعلمون تماماً أن جانب الأميركيين لا يؤتمن، وأن أساطيلهم ومدمراتهم الراسية في البحر الأبيض المتوسط لن تغادر قبل أن تحقق الأهداف التي قدمت من أجلها. فبعد أكثر من سنتين ونصف السنة على اندلاع الثورة، يجد السوريون أنفسهم مهددين بضربة عسكرية أعادت إلى ذاكرتهم ضرب العراق قبل عشر سنوات، الأمر الذي دفعهم إلى التحصّن والتزوّد بمختلف الحاجات الأساسية، خصوصاً في المناطق الموالية التي لا تزال تحت سيطرة قوى النظام. وأصبح الشغل الشاغل لقاطني هذه المناطق تجهيز الملاجئ الآمنة والتزود بالخبز والسلع والأغذية الضرورية. ولم يخفف من هذا النشاط المحموم سوى «التباشير» بإمكان تفادي الضربة عقب إذعان النظام وقبوله بتسليم أسلحته الكيماوية، لكن هذا لم يُزل مخاوف الناس تماماً لأنه لم يبدد خطر الضربة بقدر ما أجل ميعاد وقوعها كما يعتقد كثيرون. على رغم خفوت صوت الضربة العسكرية، ما زال السوري يفكر بالاحتماء والحفاظ على حياته وحياة عائلته، وهذا حق مشروع، خصوصاً للعائلات التي لا تقوى على مغادرة المناطق الحساسة، كما فعلت آلاف الأسر التي تركت مناطقها وانتقلت إلى العيش في الأرياف التي يعتقد بأنها أكثر أمناً بسبب خلوها من النقاط العسكرية المهمة. لكن المصيبة هي أن المخاوف التي تجري في عقول الناس هنا لا تتعلق بأخطار الضربة ذاتها في حال حدوثها، ولكن في ما بعد الضربة والسيناريوات التي ترسمها عقولهم لما قد يحدث! تعددت الأسباب... والهاجس واحد في الواقع، لا يخشى سكان المناطق الساخنة سلفاً من الضربة العسكرية، كما يفعل غيرهم، فهؤلاء ألفوا إلى حد بعيد قصف الطائرات ودك المدافع لمناطقهم، على عكس سكان المناطق المستقرة الذين تتأتى مخاوفهم من مناح عدة، أولها تلك المخاوف من أن تغتنم الكتائب المرابطة على تخوم هذه المناطق حال الفوضى الناجمة عن الضربة وتعمد إلى اجتياحها وتصفية حسابها معها؛ أو أن تطلق الضربة العنان للصوص وشذاذ الآفاق للقيام بعمليات سطو وسرقة واغتصاب، ثم ماذا سيفعل سكان هذه المناطق عندما ينقلب الشبيحة والمرتزقة، كما فعلوا في مناطق كثيرة، وينقضون على بيوت هذه المناطق التي يعرفونها جيداً ويعرفون محتوياتها؟ وأخيراً، كيف سيكون الحال إذا استدارت فوهة مدفعية النظام 180 درجة لتقصف جنبات هذه المناطق بحجة إخراج المسلحين منها إذا ما انتشروا في أروقتها؟ يقول أكثم، وهو مدرس يسكن في دمشق: «انتشرت حال من الذعر عند سكان المدينة مع تزايد الأنباء عن دنو موعد الضربة العسكرية قبل أسابيع، ما دفع الناس إلى الإسراع في تأمين أماكن للاحتماء فيها، كالملاجئ والأقبية التي جُهِّزت بخزانات مياه وإنارة. كما نشط آخرون في اجتراح حلول لمشكلات التسرب الكيماوي عبر تصنيع كمامات يدوية لم تختبر حقيقة، ولكن يؤمل بأن تكون فعالة في مواجهة أي تسرب كيماوي محتمل». ويتابع: «اليوم، ومع تراجع احتمالات الضربة العسكرية، ولو نظرياً، تعلم الناس ألا يتركوا شيئاً للمصادفة. فالأقبية التي كانت مهملة لم تعد اليوم كذلك، وسكان الأبنية الذين كانوا يؤجرون هذه الملاجئ عمدوا إلى إخلائها من شاغليها تمهيداً لاستخدامها عند الضرورة». سورية اليوم... عراق الأمس أما بيداء، وهي عراقية لا تزال مقيمة في دمشق، فتقول: «ما يجري في سورية حالياً يذكرني بالأجواء التي عمت العراق قبيل الضربة الأميركية عام 2003. حينها، بدأ الناس يتزودون بالأغذية والأدوية، وكان الوجوم والخوف يسيطران على وجوه الناس، كما هو بادٍ على وجوه الناس في سورية اليوم». وتضيف: «لا أتمنى أن يتكرر الأمر مع سورية. فالويلات التي جرّتها الضربة على العراق والعراقيين كانت كارثية، ولم يتم تجاوزها حتى اليوم، بدليل أن العنف ما زال متواصلاً منذ عشر سنوات ويمنعنا من العودة إلى العراق». بين إلغاء الضربة أو إرجائها، كسب السوريون متسعاً من الوقت مكنهم من أن يلتقطوا أنفاسهم، خصوصاً في الأيام الأولى عندما توقع الجميع أن تكون الضربة قاب قوسين أو أدنى. واليوم، مع فقدان الحديث عن الضربة العسكرية صدارة أكثر ما يشغل بال السوريين، يحرص الناس هنا على أن يبقوا آذانهم مفتوحة لأي حدث قد يعيد هذا الحديث إلى الصدارة مجدداً، أو ربما ينزل بهم إلى الملاجئ والأقبية رغماً عنهم.