القاهرة: محمد رُضا ليلة أمس، الثلاثاء، كانت ليلة ختام الدورة الـ36 من مهرجان القاهرة السينمائي الدولي. وكانت ليلة حاسمة. أكثر ليالي المهرجان العتيد حسما في الواقع. فالمباراة لم تكن فقط بين الأفلام المشتركة والمتنافسة على الجوائز الأولى في القسمين الرئيسي (المسابقة الدولية) والموازي الأول (آفاق السينما العربية)، بل بين كل العناصر والأقسام الإدارية لتقديم حفل جيّد يختلف عن حفل الافتتاح الذي تعرّض لهجوم وانتقاد شديدين من قبل غالبية الصحافيين في الإعلام المصري قبل سواه. صحيح أن عددا من الإعلاميين عاد فقرر أنه يجب عدم الحكم على المهرجان من خلال حفل افتتاحه، وصحيح أيضا أن رئيس المهرجان، سمير فريد، نفى مسؤولية المهرجان عن معظم ما ألقي على كاهله وتبعاته من مشاكل، إلا أن الحفل، بسبب عوامل كثيرة، كان يحتاج لتقويم سريع يجنّـب حفل الختام الوقوع في الفخاخ ذاتها والأخطاء نفسها. لذا، سعى المسؤولون المختلفون في المهرجان سعيا حثيثا لمتابعة التفاصيل المهمّـة تجنّبا للأخطاء ولكي ينهي المهرجان دورته الجديدة بنجاح كبير. * ما بين القلعة والهرم الواقع أن أي حفل يقام خارج صالة مغلقة معرّض لأضعاف ما قد يتعرّض له الحفل المغلق من أخطاء. عدد التفاصيل التي على المخرج ومهندس الصوت والديكور والمشرف على الإضاءة والتصوير وتلك غير المنظورة من عوامل وضروريات أخرى، أكثر من تلك الموازية لها في مكان محدد ومغلق. التأخير قد يكون واحدا (وكل الحفلات تتأخر)، لكن الطريق من وإلى مسافات بعيدة، ثم مساحة المكان الكبيرة يضيفان إلى تلك الاحتمالات الفنية والإدارية مصاعب أكثر. والحقيقة أن المهرجان واقع بين أن يكون فعلا سينمائيا وأن يكون فعلا سياحيا يراد له أن يلعب دورا سياسيا إيجابيا. والحال الثاني، ذاك الذي عليه فيه أن يلعب دورا سياسيا، هو الأقوى. هذا لأن حفلتي الافتتاح والاختتام أقيمتا برعاية وزارة السياحة التي مولتهما. وهي فعلت ذلك لكي تبرهن على أن مصر بخير وبأمان. إنها غاية نبيلة وتنطلق من ضروريات نعلم بها جميعا، لكنها تفرض على المهرجان بذلك أن يتّـبع منهجا قد لا يكون «سينمائيا» بالمعنى الكامل. بالنسبة للمهرجان فإنه من الصواب أيضا أن يُعامل كحدث سينمائي وليس كمناسبة سياسية. وربما لولا هذه الرغبة لفعل ذلك وانطلقت حفلتاه في أي مكان يكون بمتناول الجمهور وفي مواقع سينمائية (كصالة عروض ضخمة في القاهرة) عوض أن يتم ما بين القلعة التي بناها صلاح الدين الأيوبي والأهرامات التي وُلدت مع الفجر الأول لمصر. * نجاحات وإخفاقات من ناحية أخرى، فإن لجنة تحكيم «آفاق السينما العربية» المنبثقة عن «نقابة المهن السينمائية» بإدارة سيد فؤاد، وهي اللجنة التي رأستها الممثلة المثقفة ليلى علوي والمنتج التونسي ورئيس نوادي السينما التونسية ومهرجان سوسة الدولي لمهرجان الشباب والطفولة وكاتب هذه السطور، توصلت يوم أول من أمس إلى النتائج النهائية لهذه المسابقة المهمّة وذلك في اجتماع استمر لساعتين ونصف الساعة استعرضت فيها الأفلام التي شاركت في نطاق هذه المسابقة المقامة للمرّة الأولى. ليل أمس، في الحفلة الختامية الكبيرة التي أقيمت في منطقة الأهرامات، أعلنت أسماء الفائزين في هذه المسابقة وجاءت على النحو التالي: جائزة صلاح أبو سيف لأحسن فيلم وقيمتها 50 ألف جنيه مصري ذهبت إلى فيلم «يوميات شهرزاد» لزينة دكّاش (لبنان). جائزة سعد الدين وهبة لأحسن إسهام فني ذهبت إلى المخرج كمال كمال عن فيلمه «الصوت الخفي» (المغرب). ومع أن النص الرسمي لشروط هذه المسابقة ينص على عدم إضافة شهادة تقدير، فإننا وجدنا أن هذه الشهادة ضرورية وهي مُنحت لفيلم «ذيب» لناجح أبو نوّار (الأردن). هذه الضرورة فرضتها حقيقة أن الأفلام المشاركة كانت، باستثناء فيلم واحد، تستحق كل ما يمكن أن يتم ابتداعه من جوائز. وهذه الأفلام تتضمن (إلى جانب تلك المذكورة) الفيلم الفلسطيني «فلسطين ستيريو» لرشيد مشهراوي والتونسي «تومبكتو» لعبد الرحمن سيساكو والتونسي «شلاط تونس» لكوثر بن هنية والمصري «القط» لإبراهيم البطوط والكويتي «كان رفيقي» لأحمد الخلف. هذا الأخير كان أقل الأفلام إجادة وحسب مصدر، تم إشراكه لسبب جغرافي وهو ضمّ أفلاما قادمة من منطقة الخليج، بما أن تلك التي شاركت مثّلت المغرب العربي والشرق المتوسّط (لبنان ومصر) ولم يبق سوى المنطقة الخليجية. لكن «كان رفيقي» فيلم إرشادي رديء الصنعة في أكثر من مجال حيوي بدءا من السيناريو وامتدادا للتمثيل والتصوير ووصولا إلى الإخراج. الدراما التي تدور حول صديقين يحاول أحدهما إرشاد الآخر لعله يرتدع عن إدمان المخدّرات، لديها الفكرة والنيّة الطيّبة ولا شيء بعد ذلك. وللأسف، لم يخل «فلسطين ستيريو» من مشاكل أخرى ولو أن الرداءة ليست من بينها. لقد تم استبدال ممثليه الرئيسيين محمد أبو جازي وصلاح حنون قبل أسبوعين من التصوير (والبعض يقول أقل) ولم يستثمر المخرج الوقت الكافي لإعادة كتابة السيناريو على نحو يتجنّب فيه البديهيات من المواقف. «شلاط تونس» كان يستحق جائزة ما، لو كانت هناك جوائز أخرى، وذلك بسبب معالجته العصرية والمبتكرة، لكنه في النهاية ترك مشاهديه على قدر من البرود ولم يسبر غور المزج بين الشكل التسجيلي والسرد الروائي على نحو ثابت. هو فيلم نسائي الإخراج كحال فيلم زينة دكّاش «يوميات شهرزاد»، لكن فيلم دكّاش يقوم بتفعيل السينما والفن في مواجهة التطرّف. لا يكتفي بالتمنّي بل يحاول أن يبني سدّا ولو أن موضوعه ليس في التطرّف بحد ذاته. * الفيلمان الفائزان ثاني أعمال اللبنانية زينة دكّاش بعد «12 رجلا غاضبا» قبل عامين هو هذا الفيلم التسجيلي المميّـز بثبات وحسن صنعته. فيه ميزة لا تتمتع بها غالبية الأفلام التسجيلية العربية الحديثة: الكاميرا التي تحكي بمفردها ما لا تحكيه الكلمات. تذهب إلى أبعد ما تعنيه العبارات وإلى ما بعد المشهد ذاته، فتخط سبيلها المنفرد في استكشاف المكان وشخصياته. تقوم المخرجة التي أسست «المركز اللبناني للعلاج بالدراما»، بما وهبت نفسها إليه: علاج الذوات المعذّبة بالدراما. تلبس عددا من السجينات زيا ملوّنا متشابها تمهيدا لتقديم وصلات مسرحية إلقائية ورقص تعبيري. وهن سعيدات بأن يستقبلن ضيوفا من الرجال والنساء جيء بهم لحضور حفلة تمثيلية تتولّى فيها السيدات السجينات رقص الفلامنغو الإسباني والبوح بما يخالجهن من شعور وما يعشنه من أحلام مكسورة في منطقة بعبدا يكمن سجن بعبد للنساء. والمحكومات اللواتي يعشن فيه هنّ إما مذنبات بالفعل وإما بانتظار الحكم عليهن وبعضهن يؤكدن أنهن لم يرتكبن الجرائم المدنية التي اتهمن بها. إحداهن (واسمها عفاف) ليس لديها مشكلة في أن تعترف فهي دخلت إلى السجن وخرجت منه عدّة مرّات. الغائب هو القانون الذي ينتصر للمرأة حين تتعرّض للعنف والضرب من الزوج أو من الأب، وكلّهن، تقريبا، تعرّضن لذلك، وأجساد بعضهن ما زالت تحمل آثار العنف الذي مورس عليهن في مجتمع ما زال الرجل فيه، رغم الحرية البادية، يستطيع تعنيف امرأته وضربها من دون أن ينتصر القانون لها. القصص الجامعة التي ترويها السجينات في معظمها هي قصص اضطهاد من الطفولة وإلى اليوم. بعضهن يبكي وبعضهن يضحك ألما لكنهن جميعا تحت وطأة سنوات من الجور والحرمان.من دون أن تتوه أو أن تنفصم أو تضعف من أهمية ما هو ماثل مباشرة.. تعالج المخرجة اللبنانية الجريمة بالفن: تدرّب النساء على الفلامينغو والإلقاء وسبر الغور لاستخلاص الموضوع الذاتي الذي ستعبّر عنه، فإذا بعدد كبير منهن يبدين أكثر مما هو متوقع وعلى نحو يفجّـر مواهب شخصية في كل ذات. كاميرا جوسلين أبي جبرايل أكثر من حاضرة لقراءة الوجوه والتعابير وتفاصيل الحركة المعبّـرة عن إحساس اللحظة. وفي مرّات تترك كل شيء وتسجل صورا من الحاضر فاتحة خطّا موازيا لما يقع. هذا هو المقصود بأن الكاميرا تحكي بمفردها. تكوّن مفردات لغوية وتعبيرية خاصّة بها. المخرجة دكّاش أذكى من أن تقع في العاطفي والخطابي، لكن ذلك لا يمنع أن بعض القصص التي ترويها النساء، بعض تلك التعابير الخاصّة، وبعض الوقائع المسرودة تترك تأثيرا عاطفيا وإنسانيا جامحا في الذات ليخلص الفيلم لسؤال حول المجتمع ونمط التعامل الإنساني مع نساء ليست بينهن من واحدة ولدت وفي ذاتها شر. المداولة التي أدت بلجنة التحكيم لمنح هذا الفيلم جائزتها الأولى لم تكن طويلة (معظم الوقت استغرق للبحث بمن يستحق شهادة التقدير)، كذلك الحال بالنسبة لفيلم «الصوت الخفي» لكمال كمال. يبدأ «الصوت الخفي» بحكاية فتاة (آمال عيوش) في الزمن الحاضر تترك البلدة إلى المدينة وتحل عند صديقة لها تعيش في مبنى مهجور (لا تبرير لذلك) وفي أحد الأيام تتعرّض لاعتداء ويتم خلاله تحطيم الكمان الذي تعزف عليه وضربها ما يترك آثارا واضحة على وجهها. تجلس إلى رجل مسن (أحمد بن عيسى) يعيش في مدخل المبنى وذات يوم تستمع إلى حكايته. ندلف من هنا إلى الماضي عندما يحاول موسى (الذي يسرد الحكاية) اختراق مجموعة من الناس (بعضهم من المناضلين الجزائريين ضد الاحتلال الفرنسي) للحدود للتواصل مع مؤيدي الثورة في المغرب والحصول على السلاح منهم. المهمّة تعترضها مصاعب عدّة بما فيها وجود عدد من المعاقين الذين لا علاقة لهم بالغاية العسكرية المنشودة. هناك شاب يود إيصالهم إلى الجانب الآخر من الأسلاك الشائكة المنصوبة على الحدود بين المغرب والجزائر. من المثري وجود شخصيات وحالات جديدة وغير مطروقة تخلق حكاية لم نر مثيلها على الشاشة، لكن قدرة المخرج البصرية تطغى على قدرته سرد مفاد روائي محكم. يطرح الفيلم الكثير من الخطابات السياسية لكنها مقطوعة دوما بسقوط أصحابها قتلى أو مصابين. ما ينقذ الفيلم الوضع غير المطروق (تصل المجموعة - بخلافاتها - إلى المنطقة المزروعة ألغاما وهي ما زالت تتناحر) ومكان وقوع الأحداث (غابة وثلج) والعين المشتغلة على التفاصيل الشخصية مع أداء لا بأس به من الجميع.