جدة: إبراهيم الأمين في قلب المنطقة التاريخية لمدينة جدة يشاهد الزائر مسجد عكاش التاريخي الذي ما زال شامخا في مكانه كشاهد على العصر، يعاند مرور السنين في صمود عجز عنه معاصروه من مساجد تحول بعضها إلى متحف تاريخي أو تمت إزالته أو هجر لصالح مساجد أحدث بنيانا وأوفر خدمات، أو تداعى بنيانه بسبب القدم والإهمال. يتوسط المسجد جدة القديمة، حيث لكل شارع قصة ترويها رواشين المنازل العتيقة، بداية من شارع الذهب الذي سمي بهذا الاسم لأن أحد سائقي آليات الهدم ضرب أثناء تكوين الشارع جانبا من بيت «آل الشبكشي» فكسر قصبة كانت تستخدم لخزن الأموال في ذلك الزمان فتطايرت مئات من الجنيهات الذهبية في الشارع فأطلق عليه هذا الاسم. ويحيط به أيضا الخاسكية التي تعني باللغة التركية «مكان علية القوم»، وكانت كذلك بالفعل قبل أن تتحول إلى سوق شعبية بسبب انتقال أعيان جدة إلى حارة الشام بعد هجوم بحري تعرضت له في القرن الـ13 فانتقلوا عنها خشية تعرضها لهجوم آخر بحكم قربها من البحر. وهناك شارع «قابل» الذي يعتبر أهم شوارع جدة القديمة، وسمي بهذا الاسم بعد أن اشتراه سليمان قابل من الشريف علي بن الحسين عام 1344هـ وسارع بالتعاقد مع شركة ألمانية لإضاءته فكان أول شارع يضاء بالكهرباء في جدة، وقدم قابل بعدها لكل مستأجر من التجار مصباحا كهربائيا ومروحة فساهم ذلك في الإقبال عليه ليشهد ولادة أكبر تجار المملكة من أمثال الراجحي والكعكي والصيرفي وبامعوضة والعامودي وغيرهم من الأسر التجارية التي غادرت الشارع بعد ظهور الأسواق الكبيرة، وإن كان البعض ما زال يحتفظ بمحله القديم كرابط بين الحاضر والماضي، ومن الجدير ذكره أن الشارع خصص للمشاة بعد أن كان شارعا تسير فيه السيارات ليل نهار. وكل هذه الأحداث عاصرها مسجد عكاش - الذي يطل على شارع قابل من الجهة الغربية - بحكم أن إنشاءه يعود إلى أكثر من 234 سنة بحسب لوحة معلقة على أبواب المسجد تشير إلى أن تاريخ تأسيسه كان في 1200هـ. بينما يرجح محمد أحمد البشير، إمام المسجد وخطيبه منذ 1410هـ - 1990م، في حديثه لـ«الشرق الأوسط»؛ أن تأسيسه الفعلي كان قبل هذا التاريخ؛ لأن الوثيقة التي سجل بها المسجد في السجلات العثمانية صدرت بتاريخ 1188هـ، ما يعني أن المسجد كان قائما قبل تاريخ صدور الصك وقبل التاريخ المعلن عن إنشائه. وأضاف: «كان مسجد عكاش قديما واجهة لمنطقة البلد يجمع وجهاءها وبسطاءها وعلماءها، يفضله الجميع عن غيره من المساجد لقربه منهم واحتوائه على جميع الخدمات التي يحتاج إليها المصلي من مصاحف للقراءة وماء للوضوء وماء للشرب؛ لأن بالمسجد بئرا عذبة المياه كانت سقيا للناس يحرصون على الوضوء والشرب منها ويتزود منها المسافرون، وأذكر أني وقفت عليها في عام 1382هـ / 1963م وأنا صبي صغير». وحول أسباب مقاومة المسجد للزمن وصموده دون غيره حتى اليوم قال: «أعتقد أن ذلك يعود لكون المسجد تحيط به محلات تجارية موقوف ريعها على عمارة المسجد وكل ما يحتاج إليه، استأجرتها منذ القدم بعض الأسر الجداوية التي توارثت استثمارها مثل عائلة بافرط والساعاتي وأبو السمح والصوري وغيرهم، فساهمت هذه المحلات في اكتفاء المسجد ذاتيا من الناحية المادية، ويشرف على هذه المحلات والأوقاف آل الهزازي الذين عرف المسجد تحت إشرافهم الكثير من التحسينات المستمرة كحملتي الترميم وإعادة البناء اللتين كانت أولاهما عام 1280هـ - 1864م، وكانت الثانية عام 1379هـ - 1977م، ورفعت فيها أرضه عن مستوى الشارع، كما أن إمامة المسجد وخطابته تعاقب عليها أشهر الخطباء الذين كانوا في الغالب من معلمي الفلاح، مثل الشيوخ أحمد قاري وبكر إدريس ومحمد الأمين يوسف ومحمد المختار أحمد بزيد وعبد الرحمن السعداوي وحسن حبيب وغيرهم الكثير، إضافة إلى أن المقرئ عبد الباسط عبد الصمد قرأ فيه في زيارة سابقة أسعدت جيران وزوار المسجد وزادت إقبالهم عليه وعلى مدرسة تحفيظ القرآن فيه». من جهة أخرى، اختلف المؤرخون في تحديد اسم منشئ المسجد وقصة إنشائه، إلا أن محمد يوسف طرابلسي في كتابه «جدة.. حكاية مدينة» رجح أن منشئ المسجد هو «عكاشة أباظة» الذي يروى أنه كان رجلا ثريا سجن ظلما في العهد العثماني وأن سجانه كان من آل الهزازي وكان يعامله معاملة حسنة، فوعده في حالة الإفراج عنه ببناء مسجد ومرافق يوقف ريعها لذريته من آل الهزازي، وتحقق ذلك بعد خروجه من السجن. وعودة للمسجد وما يحويه، فله خمسة أبواب صنعت من خشب الجوز القديم المميز بلونه البني المحروق الذي لا يتغير مع مرور الزمن، يطل ثلاثة منها على شارع «قابل»، ويطل الاثنان الباقيان على «سوق الندى» العريق، وتتوسط المسجد قبة دائرية مرتفعة عن الأرض نقشت عليها الزخارف والأشكال الهندسية الإسلامية، صنعت نوافذها من الزجاج المزركش بألوان زاهية تخلب الألباب عند نفاذ ضوء الشمس خلالها، وتحت هذه القبة بالضبط توجد البئر التي كانت سقيا المسجد قبل إنشاء خزان ضخم للمسجد في عملية ترميمه الأخيرة. ويحتوي المسجد على مكتبة عامة حديثة أنشئت عام 1410هـ - 1990م تحوي كتبا شرعية ومراجع للباحثين، تفتح أبوابها من بعد صلاة العصر إلى بعد صلاة العشاء كل أيام الأسبوع ما عدا الجمعة. وفيما يتعلق بالأوقاف التي تدر على المسجد، أفاد محسن طلال، أحد البائعين بأحد المحال التجارية التابعة لأوقاف المسجد، أنه ورث عمله في هذا المحل عن والده قبل 15 عاما، ما جعله يعتاد الصلاة في مسجد عكاش لدرجة أنه يأتي في أيام إجازته للصلاة فيه. وذكر أن المسجد يشهد في وقتي المغرب والعشاء ازدحاما بسبب مرتادي السوق، إلا أن التنظيم الفائق لمرافق المسجد يساعد على انسيابية الحركة والمحافظة على النظام.