حتى عجائز (نيسابور) - كما يضربون في الأمثال - يعرفون أن قضية جريان الربا في الأوراق البنكوتية كأثمان للسلع والخدمات، هي محل خلاف بين العلماء؛ بينما يصر بعض علمائنا بالقول إن جريان الربا المحرم شرعاً فيها مسألة قطعية ومحل إجماع.. هذا اسمه عند الفقهاء تدليس، وانتصار للذات، كان الأولى أن يترفع عنه من يقولون بالإجماع من باب الأمانة، والعالم الفقيه أحرص المسلمين على الأمانة. كما أن مسألة الغناء والمعازف هي - أيضاً - محل خلاف وهذا الخلاف من قديم وثابت حتى للمبتدئين في طلب العلم، ومع ذلك يصر بعض علمائنا أن تحريم المعازف قضية مجمع عليها، ومن أجازها إما أنه صاحب (بدعة) أو أنه لم يطلع على دليل التحريم رغم علمهم أن هناك أدلة أقوى تقول بالإباحة. وماهية الحجاب للمرأة هل هو غطاء الوجه، الذي يُسمى (النقاب) أم هو التحنك وغطاء الشعر وترك الوجه مكشوفاً، وما زال هذا الخلاف قائماً. وكان علماء السلف الأوائل يحرصون على (الإشارة) إلى هذا الخلاف في فتاواهم في مسائل كهذه حرصاً على الأمانة؛ فإذا سُئلوا في مسألة خلافية قالوا: فيها قولان أو أقوال، ثم يُرجح حسب اجتهاده أحدها.. وكان الإمام الشافعي - رحمه الله - يقول: (رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب)، أي أن المسألة المختلف عليها بين المذاهب هي مجرد (آراء)، وليست (يقينيات).. أن ترفع (رأيك) أو اجتهادك في مسألة ما على أنها مسألة يقينية، أو أنها (من المعلوم من الدين بالضرورة) وتُصر عليه، وتُسفِّه بأقول العلماء الذين يختلفون معك وتشكك في علمهم أو أمانتهم، فأنت هنا تُصنّف تلقائياً بأنك (متشدد)، أو أنك وضعت من اجتهاداتك (تشريعاً) من قال بخلافه فقد قال بما يرفضه الشرع المطهر. ومن أصدق العبارات المأثورة، والمتداولة حتى الآن أن (اختلاف الأئمة رحمة بالأمة) وهذا صحيح ودقيق.. فالأصل أن (العصمة) انتهت بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبالتالي فلا عصمة لبشر بعده على الإطلاق.. وانتفاء العصمة يعني أن العبرة في مسائل الحلال والحرام بالدليل؛ فالأصل في الأمور الإباحة، وبعد ذلك فالحرام يقتضي توفر أحد ثلاثة مقتضيات: نص قطعي الدلالة من كتاب الله جل وعلا بالتحريم.. أو نص قطعي الدلالة والثبوت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يُحرم هذه الممارسة، أو قياس محكم على دليل من القرآن أو من السنة يقول بالحرمة؛ وخلاف ذلك ففي الأمر سعة. ونحن في زمن يتطلب منا أن نراعي مصلحة المسلمين وأن نقرأ (الواقع) جيداً، وأن نتخذ من التيسير لا التعسير ديدناً في قضايا الشريعة ما استطعنا إلى ذاك سبيلاً؛ خصوصاً ما يتعلق منها بالنوازل والمستجدات، وأن نتسامح في تعدد الآراء فيها، منطلقين في هذا التسامح من مبدأ (اختلاف الأئمة رحمة بالأمة)، يقول القاضي أبو بكر بن العربي الأشبيلي في (أحكام القرآن) ما نصه: (والذي يسقط لعدم بيان الله سبحانه فيه وسكوته عنه هو باب التكليف، فإنه بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم تختلف العلماء فيه، فيحرم عالم ويحل آخر، ويوجب مجتهد، ويُسقط آخر، واختلاف العلماء رحمة للخلق، وفسحة في الحق، وطريق مهيع إلى الرفق).. وهذا يعني أن أولئك المتشددين من العلماء الذين يرون رأيهم في ما اختلفوا فيه مع غيرهم من العلماء، هو الرأي الصواب قطعياً، ولا يحتمل إلا الصواب، هم ممن يضيقون واسعاً ما كان لهم أن يضيقوه. ومن النقاط الهامة التي يجب أن نتفهمها، أن اختلاف عصر السلف عن عصورنا، هو حقيقة لا يمكن تجاوزها؛ ومتى ما تجوزناها، واستوردنا قول عالم من علماء السلف حيال مسألة كان يتكلم ويقول فيها عن عصره وظروف واقعه لا عن عصرنا واعتبرنا قوله في عصره حجة على عصرنا، فنحن بذلك نقارن مع وجود الفارق؛ ومعروف أن (المقارنة مع وجود الفارق) خلل لا يجوز به الاستدلال.. أما الفارق بين عصر السلف وعصرنا فلا ينكره حتى الجهال، فكيف بالعلماء. إنها دعوة صادقة لعلمائنا (المتشددين) أن يؤمنوا بالحقيقة التي تقول: إن تعدد الآراء والمدارس الفقهية معين لا ينضب أعطى للفقه الإسلامي كل هذه المرونة والرحابة، والصلاحية لكل زمان ومكان.. فلا تُفقدوه هذه المزية بتشددكم. إلى اللقاء. نقلا عن الجزيرة