أسهمت بعض الظواهر الاجتماعية مثل الطلاق والعنوسة والعنف مع تنامي الإحصاءات والمؤشرات السلبية الاجتماعية والعائلية في رواج سوق ضخم للاستشارات الأسرية ومراكز الإرشاد الأهلي.. بدلا من البحث عن حلول إيجابية للمشاكل والأزمات الاجتماعية تبين أن مراكز الإرشاد والمستشارين هؤلاء أصبحوا جزءا من المشكلة، إذ اتضح أن أغلبها تعشعش فيها الفوضى والأزمات والمخالفات.. لم يعد أحد يثق فيها وفي معالجاتها.. ففاقد الشيء لا يعطيه. ويرى المراقبون أن مجال الاستشارات في القطاع الأهلي في نمو متزايد نتيجة لتفاقم القضايا الأسرية ولكنه بحاجة ماسة إلى إعادة تنظيم وترتيب وفرض رقابة وتدقيق حول أهلية المراكز الخاصة، باعتبار أنها تعاني من فوضى ومشكلات متعلقة بالاعتمادات والتصاريح وسلسلة من المخالفات التي أصبحت تحول بينها دون تقديم دورها في معالجة قضايا الأسرة. يضيف المراقبون إلى توجه بعض القائمين على تلك المراكز الخاصة إلى الربح السريع وجني المال واستغلال بعض الثغرات في الأنظمة واللوائح في ظل ضعف الرقابة ما تسبب في تضاعف عدد المستشارين الذين يحملون شهادات وهمية وتوغل الدخلاء على هذه المهنة من كل حدب وصوب وعبر جميع الوسائل الدعائية والإعلامية المتاحة.. إذ بات المجال مفتوحا للجميع بلا استثناء بلا حسيب أو رقيب. ويكشف المدير التنفيذي لمركز إرشاد للاستشارات الاجتماعية، محمد فهد السبيعي في تصريحات سابقة عن تلقي مركزهم المرخص من وزارة الشؤون الاجتماعية خلال العام ١٤٣٥ قرابة 40 ألف مكالمة كمؤشرات لعدد من القضايا الاجتماعية مثل الطلاق والعنوسة والعنف الأسري دقت نواقيس الخطر خلال العام المنصرم، إذ تم تسجيل 54 ألفا و471 حالة طلاق مقابل 77 ألفا و512 عقد زواج أي بما يعادل 7 حالات طلاق لكل 10 حالات زواج وهي إحصاءات رسمية صادرة من وزارة العدل، إذ أشارت أيضاً إلى ارتفاع دعاوى الخلع وإثباته خلال الفترة نفسها. 4 ملايين عانس فيما يتعلق بالعنف الأسري، أوضحت دراسة حديثة أن 45 % من الأطفال يتعرضون لصور من الإيذاء في حياتهم اليومية، فيما وصل 83 % من الحالات التي تتعرض للعنف الأسري إلى دور الملاحظة والتوجيه والرعاية عن طريق الشرطة، و72 % من الضحايا يصلون عن طريق أحد الوالدين وسجلت جرائم العنف الأسري نسب متزايدة سنوياً وأشارت آخر الإحصاءات الصادرة في العام 1434هـ إلى رصد 576 قضية تعنيف ضد المرأة والطفل، وأبدت هيئة حقوق الإنسان قلقها حول ازدياد ظاهرة العنف الأسري بعد ارتفاع نسبة الشكاوى حتى نهاية عام 1434 للضعف مقارنة بعام 1433 التي سجل خلالها 292 حالة، وتعلقت أكثرها بقضايا تعنيف ضد أطفال ونساء. فيما أظهر إحصاء حديث أعدّه مركز أبحاث أن نسبة الشباب من الجنسين الذين وصلوا إلى سن العنوسة، بلغت 5 % من المواطنين من إجمالي عدد المواطنين المقدر بحوالي 20 مليون مواطن.. وأوضح التقرير بأن عدد الفتيات العوانس يبلغ 1.4 مليون، فيما يبلغ عدد الرجال 100 ألف كما كشفت إحصائية سابقة صادرة عن وزارة التخطيط، أن عدد الفتيات العوانس، مرشح للارتفاع من مليون ونصف المليون فتاة حاليا، إلى نحو 4 ملايين فتاة في السنوات الخمس المقبلة. تراخيص جهات متعددة في ظل هذه الأرقام والإحصائيات المقلقة نشط الاستشاريون الأسريون وسط جو من الفوضى وغياب الرقابة ويعزو المراقبون الأمر إلى وجود عدة جهات تقدم تراخيص عمل مكاتب الاستشارات في هذا المجال ولا يوجد بين هذه الجهات أي ارتباط ما أدى إلى هبوط مستوى الاستشارات الأسرية لتكون أحد أبرز العوامل السلبية التي تحول دون مواجهة وعلاج القضايا العائلية ومشكلاتها، وعلى الرغم من أن وزارة الشؤون الاجتماعية هي الجهة الرسمية المخولة بإصدار تراخيص مزاولة الاستشارات الأسرية بحسب ما تنص عليه اللائحة التنظيمية لمراكز الإرشاد الأسري الأهلية الصادرة بقرار مجلس الوزراء وتأكيد الوزارة بأنه «لا يسمح لغير المكاتب المرخصة تقديم الاستشارات الأسرية»، إلا أن هناك جهات أخرى ظلت لفترة غير محددة تقدم التراخيص منها: المؤسسة العامة للتدريب المهني ووزارة التجارة ممثلة في الغرف التجارية وهو ما أوجد العديد من مراكز الاستشارات الأهلية غير المؤهلة طبقا لخبراء في لإرشاد الأسري من بينهم البروفيسور محمد القرني، أستاذ العلاج الأسري في جامعة أم القرى. 30 مليون مشاهدة التقارير تشير إلى أن هذه الفوضى في منح التصاريح لمراكز الاستشارات الأسرية الخاصة فتحت الباب على مصراعيه لدخول الاستشاريين الوهميين في المجال، وقد طرح هذا الأمر في تحقيق استقصائي خلال إحدى حلقات برنامج الإعلامي داوود الشريان وأشارت الحلقة حينها إلى أن شبكة الإنترنت أصبحت أكبر سوق خصبة للاستشاريين «الوهميين»، كما أكد عضو مجلس الشورى، المهتم بالشهادات الوهمية والمزورة الدكتور موافق الرويلي، في تصريحات صحفية سابقة مطلع العام الجاري أن قطاع الاستشارات الأسرية يعد من أكثر القطاعات التي تشهد حضورا للشهادات الوهمية ولذلك انتشر العديد ممن حملوا الألقاب الاستشارية والاعتمادات الدولية من جهات وجامعات وهمية خارج المملكة تمنح شهادات مضروبة.. ومارس هؤلاء مهامهم من خلال المراكز الأهلية والمواقع الإلكترونية في ظل فوضى التصاريح وعدم الالتزام باللائحة التنظيمية من جهة، وتضاعف الإقبال الجماهيري على الاستشارات الأسرية نتيجة لتفشي ظواهر الطلاق والعنوسة والعنف الأسري من جهة أخرى، حتى أن أحد المواقع الإلكترونية الذي دشن مؤخرا ويدعي القائمون عليه تقديم هذه الخدمات الاستشارية استطاع جمع قرابة 30 مليون مشاهدة خلال مراحل التدشين بحسب ما نشرته إحدى الصحف مؤخرا، وبالتدقيق في السير الذاتية لمستشاري الموقع الذي باع آلاف الاستشارات عبر الرسائل النصية، نجده يعج بعشرات المستشارين من حملة الشهادات المشكوك في صحتها من جامعات تهدي الدرجات العلمية مقابل المال، وأصبحت أسماء تلك الجامعات معروفة لدى العامة بعد أن أصدرت وزارة التعليم العالي قوائم بأسمائها وتداولتها العديد من وسائل الإعلام الجديد ما ساهم في نشر الوعي العام. إخفاء اسم الجامعة الشواهد ونتائج البحث الاستقصائي تؤكد نجاح الكثير من المستشارين الأسريين الوهميين في الوصول إلى المنابر الإعلامية ووسائل الإعلام الجديد بسرعة البرق، كما تعج المكتبات التجارية بمؤلفاتهم بسبب عدم وجود آلية واضحة أو فعالة في ملاحقة ومعاقبة المخالفين من قبل الجهات المعنية وبالتالي أصبح هؤلاء جزءا من حراك يدعي التوعية وباتوا يمارسون هذه المهنة ربما بالفراسة والتحايل. وبالرغم من تزايد الوعي العام بالجامعات الوهمية من خلال مجهودات الجهات الإعلامية وبعض الناشطين في شبكات التواصل الاجتماعي، إلا أن أصحاب الشهادات الوهمية تداركوا هذا الأمر وباتوا يخفون أسماء الجامعات التي حصلوا منها على هذه الشهادات والتراخيص الاستشارية الوهمية وحذف اسم الجامعة من سيرهم الذاتية تحسبا من اكتشاف حقيقتهم.. ولعله من المفيد القول إن فقرات المادة الحادية عشرة من «القواعد التنفيذية للائحة التنظيمية لمراكز الإرشاد الأسري الأهلية» الصادرة عن وزارة الشؤون الاجتماعية تشترط في العاملين في أي مركز إرشاد أسري أهلي أن يكونوا من أصحاب احدى المؤهلات التالية: (الإرشاد الأسري -الإرشاد النفسي - العلاج الأسري - الإرشـاد الاجتمـاعي- علـم الاجتمـاع- علم النفس- الخدمة الاجتماعية- الطب النفسي وبدرجة البكالوريوس على الأقل وأن يكون لدى الممارس خبرة عملية لعدد من السنوات بحسب الدرجة العلمية الحاصل عليها). الشهادة الجامعية .. لا يهم ومن المدهش أنه لا توجد فقرة في المادة الحادية عشرة من اللائحة التنظيمية للإرشاد الأسري تفرض التدقيق في أن يكون ممارس الإرشاد الأسري حاصلا على الشهادة الجامعية (بكالوريوس، ماجستير، دكتوراه) أو دبلوم ما بعد البكالوريوس من إحدى الجامعات في داخل المملكة أو خارجها من «المعترف بها من قبل وزارة التعليم العالي»، إلا فقط لمن يرغب في فتح المركز «المالك» بحسب ما جاء في المادة الثانية عشرة من اللائحة وبالتالي قد تكون هذه إحدى الثغرات التي يتسلل منها حملة الشهادات الوهمية هذا المجال.. ولكن ذلك لا يمنع أن اللائحة بها مواد أخرى لمعاقبة ووقف نشاط مراكز الإرشاد الأسري في حال إخلالها بالجودة. وما نستطيع أن نؤكده من خلال العمل الاستقصائي هو أن أسواق الاستشارات الأسرية وخاصة عبر المواقع الإلكترونية تعاني بالفعل من كثرة المستشارين الوهميين وهو ما ينتج عنه فوضى فاقمت من المشكلات والقضايا الاجتماعية بدلا من حلها، بل ونسفت الجهات المخالفة جهود الجهات المختصة والمسؤولة، والمؤشرات الإحصائية خير دليل على هذا الوضع الذي بات يستوجب تدخلا قويا من الشؤون الاجتماعية ومكافحة الفساد والجهات الأمنية وعدم الاكتفاء بمنع المخالفين من مزاولة هذه المهنة بل تسليمهم إلى القضاء. بروفيسور علاج أسري: الشؤون الاجتماعية أهملت ملاحظاتي عن الثغرات أستاذ العلاج الأسري في جامعة أم القرى البروفيسور محمد القرني يرى أن مراكز الإرشاد الأسري الأهلية ومجال الاستشارات الأسرية تعاني من مشكلات حقيقة لأسباب عدة منها أن هناك جهات تفتتح مراكز بدعوى التدريب والتطوير الذاتي بعد الحصول على تصريح من وزارة التجارة أو من خلال المؤسسة العامة للتعليم والتدريب المهني ثم يدرج من ضمن خدماتها الاستشارات الأسرية وهذه هي الإشكالية الكبيرة ومن المفترض أن يتبع نشاط كهذا إلى وزارة الشؤون الاجتماعية، وهي جهة الاختصاص الرسمية. ويضيف البروفيسور القرني لـ«عكاظ» أن الشؤون الاجتماعية أصدرت قبل عامين لائحة تنظيمية لمراكز الإرشاد الأهلي وكنت أحد المحكمين على اللائحة قبل صدروها، وأبديت ملاحظاتي على بعض الثغرات في مواد اللائح ومنها على سبيل المثال لا الحصر، إدراج تخصصات لا علاقة لها بالإرشاد والعلاج الأسري، وبالرغم من الملاحظات التي أبديتها إلا أن الوزارة أقرت اللائحة بعد تقييمها الشامل لجميع الآراء الأخرى مع وعود من المسؤولين بالعمل لاحقا على تطوير اللائحة عندما تستدعي الحاجة لذلك. البروفسور القرني يضيف أن وكيل وزارة الشؤون الاجتماعية للتنمية الاجتماعية الدكتور عبدالله السدحان أنيطت له مسؤولية الإشراف على قطاع الاستشارات الأسرية، وهو مهتم جدا بهذا الشأن وأكد لي أن الوزارة تضع من ضمن أولوياتها في هذه المرحلة العمل على إيقاف قضية التصاريح المقدمة من الجهات غير المخولة. وكشف أن أعداد حاملي الشهادات «الوهمية» في مجال الاستشارات الأسرية في المراكز الأهلية كبير للغاية، وسبق لي أن دعيت للمشاركة في إلقاء محاضرة في أحد مراكز الإرشاد الأسري في جدة واكتشفت أن غالبية المستشارين العاملين في المركز يحملون شهادات مضروبة، وانتشار أمثال هؤلاء في مجال الاستشارات الأسرية أصبح أحد الأسباب التي ساهمت في تفاقم قضايا الأسرة ومشكلاتها. وقال القرني إن نجاح اللائحة التنظيمية لمراكز الإرشاد الأسري الأهلية يتوقف على تفعيل آلية عملية للمراقبة الميدانية وتنفيذ ما تنص عليه اللائحة على أرض الواقع للحد من انتشار حملة المؤهلات الوهمية والقضاء تدريجيا على الظواهر السلبية التي نجمت عنها.