لم تكن الحاجة ماسة إلى الفهم العميق في يوم من الأيام كما هي اليوم، وصار الفارق الواضح بين إنسان وآخر يتمثل في مقدرته على الفهم، والاستفادة من تلك المعلومات على نحو أحسن. وهذا لا يتم إلا من خلال امتلاك مركب عقلي جديد، ذي بنية متميزة. ومن هنا تأتي مهمة التربية في أن تساهم في تكوين تلك البنية وصقلها. من هنا سميتها «فهمالوجيا». كثيرا ما نعمد إلى محاولة تلقين الأبناء. وعند النظر في مدى التأثير الذي يتركه ذلك في تصحيح تصوراتهم نجد أنه محدود جدا. وقد رأيت كثيرا ممن يدرس في علم المنطق وكثيرا ممن درسه، ورأيت أن تفكيرهم يفتقر إلى بعض البديهيات التي يحتاجها التفكير القويم ولذا فإن من الصحيح أن يركز المربي في البداية على إلقاء الأضواء الكاشفة على الأفكار والرواسب السابقة، والمفاهيم والعادات العقلية التي تحول دون الرؤية الصحيحة، مثل التعصب والمبالغة والرؤية النصفية، والخضوع للمقولات الشائعة، والتعامل مع الواقع على أنه كتلة صلدة. وأعتقد أن أثر الأسرة في هذا لن يكون كبيرا؛ حيث إن هذه المسائل يجب أن ينتبه إليها الأشخاص العاديون، وإنما المعول في ذلك على الوسائل الإعلامية والمناهج المدرسية والمجالس والندوات الفكرية. إن كثيرا من أفكارنا لن تبلغ حدها الكافي من التبلور والنضج إلا إذا تسلحنا بالحقائق التي لا تتطابق مع ملاحظاتنا وفروضنا الأولية، حيث من خلالها نستطيع إدخال تعديلات على أفكارنا، ونجعلها أكثر ملاءمة للتقدم، وأقرب إلى الدقة والصواب. نحن بشر وتحليلاتنا وملاحظاتنا، ستظل قابلة للتهذيب والتطوير، ويجب أن نعلم أطفالنا وطلابنا هذه الحقيقة، ونريهم من خلال الوقائع المواقف والتطبيقات التي تجعلها تتغلغل في ما قالوا قديما: نصف عالم أضر على الأمة من جاهل. وهذه من الحكم الرائعة؛ لأن الجاهل يملك بعض الأخلاقيات، مثل التواضع وحب المعرفة، والقدرة على الاستماع دون مقاطعة. أما نصف العالم، فإن لديه قدرة على تكرار الألفاظ، وطرح الفروض المبتذلة والدارجة، وعنده شيء من الغرور والتعالم، ولذا فإنه يسدل حجبا سميكة على عقله، فلا يتقبل الأفكار الجديدة، ولا يملك من الحماسة ما يكفي لتطوير مفهوماته وطروحاته. إن توسيع قاعدة الفهم، يتطلب منا أن نؤكد دون ملل على ضرورة وضع معارفنا وأفكارنا في موضعها الصحيح من جسم المعرفة البشرية المنظمة، والسائدة اليوم، وأن ننظر بجدية إلى خطورة ما نجهله حول كل قضية من القضايا المعاصرة. إن قدر العالم وفضله لا ينبعان من كثرة ما يعرف، وإنما من حدسه بما لا يعرفه وتقديره له، وأخذه بعين الاعتبار عند إصداره الأحكام. إن صاحب الفهم الصحيح، يحاول دائما أن يجعل أفكاره متساوية مع حجم البراهين المتوفرة لديه، فعلى مقدار صلابة المعلومات والبراهين تكون صلابة الأفكار ودرجة الوثوق بها. وإذا نظرنا في واقع عالم الأفكار لدى كثيرين منا، لوجدنا أن درجة الوثوق واليقين كثيرا ما تكون متقدمة على ما هو متوفر لديهم من أدلة وبراهين ومعلومات، مما يجعلهم في حالة دائمة من الاضطراب والتشوش، ومما يجعل خيبة الأمل حليفة لهم. فهل نحن من أمة «فهمالوجيا»؟.