قِيمٌ جَمَاليَّةٌ.. وَقِيَمٌ في القُبْحِ، أو البرودة: قال أبو عبدالرحمن: كيف يكون في القُبْحِ أو البرودةِ قِيَمٌ وقد جَرَى الاستعمالُ مِن العُرْفِ اللُّغَوِيِّ العَامِّ على أنَّ القِيَمَ تُطْلَقُ على ما كان محموداً مِن الحقِّ والخير والعدْلِ والجمال؟!.. والجوابُ: لا يمتنعُ مع هذا إطْلاقُ نقائض ذلك كالقبح، أو أضداده كالبرودة؛ لأنَّ التَّنْظِيْرَ عن خصوص الاصطلاح لا عن عموم العُرْفِ العام؛ ولأن لخصوص الاصطلاح معناه إذا صحَّ معناه الأخصُّ؛ ووجهُ الصحةِ ههنا أن القُبْحَ الذي هو نقيضُ الجمال لا يتَحَدَّدُ إلا بالمعنى الجامِع الذي يجعله قُبْحاً معلوماً؛ وهو أن يكون نقيضَ كلِّ ما هو معلومٌ أنه جمال.. ولأن ضِدَّه الذي هو البرودة لا يتَحَدَّدُ إلا بالعلم بكلِّ ماهو جمالٌ وما هو قبحٌ.. أي بأن يكون ليس جمالاً، ولا قُبحاً، ولا شيئاً غيرَ ذينك سِوى أنه برودة.. وقِيمُ الحقِّ الذي هو ضِدُّ الباطل والضلال، وقِيمُ العقلِ العمليِّ الذي هو الأخلاقُ التجريبيَّةُ التي تُحقِّق منفعةً في العاجل والآجل مع المعادلة بالتضحية بالعاجل إيثاراً للآجل الأكثرِ منفعةً؛ وهو الذي لا يجعل الضرر في التضحية بالعاجل شيئاً يُعْتدُّ به بالنسبة لِخِزْي التضحيةِ بالعاجل.. وَقِيَمُ العقل العلمي وقيم الحقِّ تُسَمَّى في اللغات الخواجِيَّة (إبِسْتُمُوْلُوجيا)، والتذرُّعُ بجوانبَ مِن هذه الِقيمِ مادةٌ لِعُدْوانِ البُنْيويِّ التضْليليِّ الظالِـمِ على النصوص المُقَدَّسة، وعلى الافتراء على سيرِ عباد الله بالادَّعاءِ العُدْواني على مقاصِدهم.. ومثقفو هذا الجيل يعلمون أنَّ التنظير للبُنْيوِية تبلور بعملٍ ظلاميٍّ في جمعية (فْيِيْنّْا) الصهيونيِّةِ؛ فتلَقَّى هذا التنظير الْحُوَاة، كما احْتَضَنَهُ بكيدٍ أعظمَ المُرْتَدُّون عن دينهم الحقِّ، الطاعِنونَ فيه من المُلَمَّعِين المُرتزقِين من أمثال (جماعة التثقيف الجنوبيِّ، جنوبَ حوض البحر الأبيض المتوسِّط)، وهم جماعةٌ صهيونيةٌ يَرْأسها مغاربةٌ في باريس، وكيد هؤلاء له نماذج كثيرة جداً جداً سأتناول أكثرها إن شاء الله من أعمال (أركون)، وحسبي ههنا تناولُ بعضِ أعمالِ الحُواةِ الضعفاء الذين ليس لهم قَصْدٌ سيِّئٌ فيما أعلم (وكمالُ العلم عند ربي جلَّ جلالُه.. لا يضلُّ ربي ولا ينسى، ويعلم السرَّ وأخفى)؛ وداءُ الحُواةِ آتٍ من الانبهار بما هو من معارفِ العامَّة ومِن عُلومهم، وآتٍ مِن حُبِّ التلميع والتحلِّي بالنُّخَبِيَّةِ -؛ وذلك ثوبُ زُور -، ومِن نماذج الاحتواءِ بكلِّ دائه التحليلُ البُنْيَوِيِّ لقصيدة (عَزْفٌ مُنْفَرِدٌ على ليلِ الجدائلِ) لمعالي الدكتور عبدالعزيز بن محيى الدين خوجة حفظه الله ضِمنَ قصائد درستها من قصائد الشعراء السُّعوديّْيِّن، وقد كتبت عنها نقداً لدراسةٍ بُنيوية نُشِرتْ بهذه الجريدة.. قال وردةً في الرُّبى بارقاً في الدُّجى فكرةً في النُّهى عَذْبَةَ المنهلِ ثم أوحى لها ربُّها فتجلَّى [م م] سنا شمسها ساحراً من عَلِ هي مَن؟.. هي نَفْحُ الهوى أصْلُه سُهْدُه وَجْدُه نارُه تغْتلي هي مَسُّ الغَوَا والجَوى والصواعقُ [م م] للخافق الهائم المُصطلي قال مجنونُـها: صرتُ أعلو لها أرتجي مدداً.. طَلْعُه أجتلي ذُقْتُها مرةً سكرةً مِن لَمَى شَفَةٍ خِلْتُها صحوةَ الأجل ذُبْتُ فيها كما لم أزل.. لم أزل أرتجي في بحار الهوى أملي قلتُ: يا نارُ كوني مدى العُمْر وَقْداً [م م] فذا قَدَري والمُنى شُعَلي وأنا والهوى آهةٌ وَترٌ ضائعٌ في المدى الشاردِ الثَّمِلِ وأنا في مهبِّ الشَّجَـى ساهمٌ مُسْهَدٌ ساجدٌ لِسَنَا المُقَلِ أبديٌّ أنا؟.. لم أَقُلْ فَسَلي [م] العُمْرَ مِنِّي.. خُذِيهِ فداءً.. سَلِي وامْنحي لَمْسةً.. نظرةً.. رَشْفَةً نَخْبُها فاض من كوثرٍ سَلْسَل أَزرعُ الحُلْمَ منها لها ليلةً ليلةً يرتوي من طِلا جدول قال أبو عبدالرحمن: أفهم أوَّلاً أن القصيدة عِرفانية على مذهب فضلاء أهل التصوُّف غيرِ الاتحاديين الحلُولِيِّين.. إنها عِرْفانية نُورانية، ولقد فَهِـمَها الحُواةُ على أنها قصيدة غزلية أرضية!!.. فاللهم لك الحمد!.. وقد أسَرَّ الدكتورُ (فيما أظنُّ) بأنْ أكون خِرِّيتاً في مجاهِلِ بثِّ الشعراء: أجتلي القيم الفكرية، وأطرب لِلَّمَسات الجمالية، وأقتنص المراد (المعاني) بالمباشرة، أو بالتدقيق في مآل القول حسب مذهبي الذي هو (منهج النقد التفسيري التعاوني الجمالي).. ولن أُحْفِظه إنْ لذعته لذعاتٍ خفيفة، ولن تكون قارصةً وإن استحقها مِنِّي غيرُه، لا طمعاً في جاه مَنْصِبِه - وهو لم يُقصِّر تلقائياً -؛ وإنما ذلك عِرْفاناً بما سَلَفَ من فضله مع أخيه الظاهري [تراجعتُ عن (ابنه)؛ لأننا متقاربان في السن]، وعِرفاناً بما هو عليه الآن وسابقاً من كريم الأخلاق؛ أفتجوز القسوة، وإن كانت في محلها معه على الرُّغم من كريم سجاياه؟!.. كلَّا؛ بل لأهل الفضل لِيْنُ القول؛ وإنما أدمغُ مَنْ يبعر بقلمه بعراً.. وقد (والعلم عند الله) أُحْفِظُ الدكتور بقسوتي على بعض الحُواة من دارسي شعره تَـمْعلماً ومجاملةً تضـرُّ ولا تنفع.. ومِن هؤلاء الأخيار الدكتورة حورية الخمليشي في كتابها (التجليات الفنية في شعر عبدالعزيز خوجة)؛ فقد أنفقتْ في مطلع دراستها سِتَّ ورقاتٍ ونصفَ صفحة عن ظاهرة الموسيقى في الشعر بعرضٍ إنشائي هُلامي لا يستخرج الغِرْبال منه شيئاً، وَمَوَّهتْ ذلك برصِّ مراجعَ خواجية بعضها لَغْوٌ، وبعضها نفيس لم تفهمه.. ولو دخلوا جُحْر ضبٍّ لدخلتموه.. والذي استفدتُه العلمُ بما في جدول القصائد المُغنَّاة من شعر الدكتور [انظر التجليات الفنية ص20-21 / ط النخبة ببيروت / الطبعة الأولى عام 2011م.]، ولم أكن أعلم ذلك؛ لأنني أيام المَيْعَة الفنية أصطفي أصواتاً خاصة من مِصْرَ خاصة أيضاً بذوق ظاهري لا يُغلب.. ثم أتحفتنا الدكتورة حورية ببدعة الرسم البياني [المصدر السابق ص12.] عن التفاعل مع الشاعر والمتلقِّي بتسلسلٍ هَرَمي ابتداء بالكاتب [شاعرِنا عبدالعزيز]، ثم إنتاج النصِّ فئة أولى [ميلاد القصيدة الذي قد يكون تلقائياً، وقد يكون عن استعداد]، ثم المُحتَوى فئة أولى [ولعله المعنى الواضح بلا تعمُّق]، ثم عمليَّة التأويل والتفسير فئة ثانية [يعني فهم النص بالسَّبْر المُضْني بخلاف المُـحتَوى السابق ذِكْرُه]، ثم القارئ [المتلقِّي كالظاهر، وقد يكون التلقي سماعاً لا قراءة].. وطال انتظاري للنماذج من شعر الدكتور؛ فإذا هي تُنْعم علينا بمقاطع ليست هي الأمْيزَ من شعر الدكتور، كما أنعمت علينا بجدول للدلالات السيميائية نقلاً عن محمد مفتاح [المصدر السابق ص25-26] .. ولا يعيب هذه التحفة إلا التحليل بأسلوب عربي مبين؛ لنفهم معاني الجدول، ولنعرف مدى قيمتها، ولنعلم أنها هي فهمتها، ولنعلم أن التفاعل مع الشعر لا يكون مُوَفَّقاً إلا بهذا الجدول البِدْعي أو الإبداعي؟؟؟.. ثم أنعمت علينا ثالثة بتحليل عجيب يستنبط شعر الدكتور في زعمها من أعماق ذلك الجدول، وكان الابتداء بقصيدة (العزف على الجدائل).. [المصدر السابق ص27-28]، وذكرتْ بداية منهج التطبيق بقولها: « يمكن أن نطبق هذا الجدول على أيِّ نص شعري؛ لأنه يتألف من معطيات علمية إنسانية واجتماعية بما فيها الحروف، والأصوات، والعلامات، والتشكل، والمعنى، ونواة المعنى، واحتمال المعنى، والصمت، والدلالة، والمحاكاة، وبداية التأويل، ونهايته، والرمز، والمُحسِّنات البلاغية.. وهي عملية ديداكتيكية [الديداكتيكية هي فنُّ التدريس أو فن التعليم، وهي إستراتيجية تعليمية تُواجِه مشكلاتٍ كثيرة: مشكلات المتعلم, ومشكلات المادة, أو الموادِّ وبنيتِها المعرفية، ومشكلات الطرائق, ومشكلات الوضعيات التعليمية.. [عن مقال بعنوان (مصطلحات تربوية) لمحمد ميلي طالب / مجلة المركز التربوي الجِهوي بطنجة] ..انظر [التجليات الفنية ص26]. قال أبوعبدالرحمن: كل هذا أفهمه من بدع وإبداع السيمياء، وَوَدِدْتُ أنني لم أفقه كثيراً من اللغو؛ ولكنني ههنا على كل حال أُرحِّب بدلالات السيمياء انتقاءً لا إجْمالاً؛ كي لا أدخل في جحر ضَبِّهم.. أريد نواة المعنى وبِذْرته، وأريد احتمال المعنى حينما أعجز عن التعيين، وأريد أن أستنبط من فضاء النص (الصمت).. إلخ.. إلخ.. ولكنْ بدون افتراء، بل لابُدَّ من معهود تاريخي للشاعر نفسه، ولا بُدَّ من معهود عُرْفي لأبناء جيله.. ولعلها تُتاح لي فرصةٌ لاستيعاب معاني (الدليل) عند الظاهرية: دلالةَ مُفْردةٍ، ودلالةَ سياق، ودلالة صيغة (وزن)، ودلالة رابطة (حروف المعاني)، ودلالة تضمُّن ولزومٍ وتشبيهٍ واقترانٍ بين المسمَّياتِ في المكان والزمان (انطواءٍ)، ودلالة المسمَّى وما فيه مِن معانٍ.. ودلالةَ الاقتران المذكورة آنفاً هي التي أخذ بها فيما بعد الطَّبِيْعِيُّونَ التصْوِيْرِيُّونَ؛ فذلك هو الهادي للبُنْيويَّة على صراط مستقيم، وإلى لقاء عاجلٍ إن شاء الله تعالى، والله المستعان، وعليه الاتكال.