بات من الواضح في عصرنا الحديث - ولعل المختصين في الموارد البشرية يؤكدون ذلك - بأن الوظيفة والمهنة صارت جزءاً مهماً من شخصية الإنسان الحديث، ولاسيما مع تنوع طبيعة الوظيفة والمهنة وتطور أشكالها وأدوارها في عالمنا الذي يضج بمؤسسات كبيرة وصغيرة، ومؤسسات ذات أهداف متعددة ليس من السهل حصرها ويعمل فيها عدد كبير من الموظفين، من هنا فإن الحديث عن الوظيفة مهم في عصرنا ويحمل شجوناً كثيرة في روح كل موظف. ومن المراحل التي قد يمر بها أي موظف في أي وظيفة هو أن يفكر أو يقرر أن يترك وظيفة وينتقل لغيرها أو ينتقل لأخرى شبيهتها في مؤسسة أخرى، سواءً كان السبب في ذلك الانتقال هو لطلب وظيفة بمستوى أعلى، أو للرغبة في التجديد والتغيير، وقد يكون السبب له علاقة بانتقال الموظف من بلد لآخر، من المدينة إلى القرية أو من القرية إلى المدينة، من مكان يعيش فيه أبواه وأهله إلى مكان يغترب فيه، ومدار هذا التنقل يعود غالباً إلى مقصدٍ رئيس ألا وهو البحث عن الرزق، والرزق ذو معانٍ متعددة بطبيعة الحال، لكن هذا مجال آخر، لست أقصده في مقالي هنا. وإن الحديث عن الانتقال من مكان إلى مكان، أو الانتقال من وظيفة إلى أخرى، هو حديث ذو شجن عندي، وعند أناس كثيرين أيضاً فيما أظن، فالإنسان من طبعه أن يألف الشيء ويعتاده، كما يقول المتنبي عن نفسه: خُلقت أَلوفاً، لو رجعت إلى الصبا لفارقت شيبي موجع القلب باكياً فهو سيبكي مرحلة الشيب لو حصل له أن يفارقها مع أن صباه سيكون أحسن منها، ذلك لأنه ألفها. وكذا هي الوظيفة، فالبيئة، وثقافة العمل، وزملاء المهنة، حتى المباني والمكاتب والمواقف والطاولات والكراسي وغيرها من الجمادات تشغل حيزاً في تشكل ذلك الشجن عن المكان الذي نعمل به، فكيف بالذكريات والأحداث والإنجازات التي تتراكم طوال تلك السنين حتى قرر الموظف أن ينتقل من وظيفة إلى أخرى. وفي هذا السياق أتذكر ذات لقاء قصة ذكرها الأستاذ حمد القاضي في معرض حديثه عن تجربته مع القراءة، وذلك وقت عمله في وزارة الشؤون الاجتماعية، حيث سنحت له فرصة الانتقال إلى وظيفة أخرى في جهة أخرى، في القطاع الخاص ربما، وكان له زميل يستحثه للانتقال معه إلى تلك الجهة، وبات الأستاذ يفكر في قرار يتخذه، ويقول إنه وهو يفكر تذكر مقولة لعمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأها في مكان ما، حيث قال رضي الله عنه: «من بورك له في أمر فليلزمه»، ومن هنا كانت القراءة والمقولة هي التي وجهت طريق الأستاذ حمد القاضي فبقي في عمله فتطور وتنقل من مركز إلى مركز حتى أدى دوراً طيباً في الوزارة، لكن زميله -والذي قرر الانتقال- عاد إليه نادماً على انتقاله غابطاً الأستاذ على قراره، فلم يجد الزميل ما يتمنى ولو بقي في مكانه لبورك له فيه وجاءه رزقه المقدر له وأكثر. وقد يكون الدافع في اتخاذ قرار الانتقال، قراراً ناتجاً عن صعوبة في التأقلم مع المكان، وعدم رغبة في الاندماج معه، فالناس هنا بين خيارات، خيار ألا يتقبل مرارة التغيير ومفارقة العادة نحو أمر أفضل وأحسن ويستحق التضحية، وبين خيار أن يتشجع ويعلم أن التغيير لازم وضروري ويهيئ نفسه لفرص أقوى وأفضل، فتحمل مشاق أمر يقابله ما يتحصل عليه من فائدة وخبرة وعوائد، وإذا كانت الحالة أن سبب التعب من الوظيفة ناتج عن أسباب لا يملك فيها الموظف قدرة على التغيير، فلا بد له من أن يستمع إلى قول الشاعر العربي المشهور في لاميته المشهورة: وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى وفيها لمن خاف القلى متعزّلُ وهذا خيار آخر. إذن، ماذا يفعل الإنسان عندما يصل إلى مفترق طرق في سبيل اختيار الوظيفة أو تغييرها؟ لا أود اختزال الخيارات، ولكن للتبسيط، لديه خياران أقولهما للموظف: ابحث عن البركة، وفي الحركة بركة، أو اعلم أن في الأرض منأى.