في العاشر من تشرين الثاني نوفمبر 2014، أعلنت وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) عن نشر أول قوة عسكرية أميركية في محافظة الأنبار بغرب العراق، مكونة من خمسين عسكرياً، يسبقون عدداً أكبر من الجنود، سيدعمون سوية العراقيين في مواجهة الجماعات الإرهابية المسلّحة، وفي المقدمة منها تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش). وتعتبر هذه هي المرة الأولى التي ينتشر فيها جنود أميركيون في محافظة الأنبار، منذ أن قررت الولايات المتحدة إرسال مستشارين عسكريين إلى العراق قبل بضعة أشهر. وجاءت هذه الخطوة بعد يومين من موافقة الرئيس الأميركي، باراك أوباما، على نشر قوة إضافية في بلاد الرافدين، قوامها 1500 جندي، بناء على طلب الحكومة العراقية، الأمر الذي سيرفع تعداد القوات الأميركية في العراق إلى أكثر من ثلاثة آلاف عنصر. وكان البيت الأبيض قد رأى في احتلال جماعة (داعش) لمدن وبلدات عراقية، في الشمال والغرب، بمثابة تهديد كبير، تتجاوز تداعياته العراق، لتلامس أمن واستقرار الشرق الأوسط برمته. ومن الواضح الآن أن الرئيس أوباما يسعى لتثبيت رؤية بعيدة المدى للشراكة مع بغداد، وأنه يحظى في ذلك بدعم الجمهوريين، الذين أضحوا أغلبية في مجلسي الكونغرس. كما في تحوز سياسته هذه على دعم وتأييد الرأي العام الأميركي. ويعكس دعم العراق رؤية واقعية لطبيعة التحديات التي تواجه هذه المنطقة الحساسة من العالم، ويترجم التزاماً أميركياً بأمن الخليج. إن الولايات المتحدة تدافع بدعمها للعراق عن أمنها القومي، وأمن حلفائها الإقليميين والأوروبيين على حد سواء. وبالقدر الذي يستطيع فيه الرئيس أوباما تطبيق رؤيته القائلة بضرورة دعم العراق، والإسراع في تسليحه، فإنه يكون قد قدم للأمن الدولي خدمة لا يدركها إلا العارفون بحقيقة الوضع الإقليمي الراهن، وحيثياته الخطرة. ويُمثل العراق شريكاً إقليمياً رئيسياً ومتقدماً للولايات المتحدة، تتجاوز العلاقة به بُعدها الثنائي، لترتبط بجوهر المقاربة الأميركية للخليج والشرق الأوسط. وهناك ما يشبه الاجماع بين الأميركيين على أنه ليس من المعقول، بحال من الأحوال، التخلي عن العراق، بعد تضحيات بلغت أكثر من 4400 قتيل و32 ألف جريح في صفوف القوات الأميركية، خلال فترة الحرب الممتدة من 19 آذار مارس 2003 إلى 18 كانون الأول ديسمبر 2011. وفي العام 2011، دخل العراق والولايات المتحدة في مفاوضات، دامت أشهر، حول بقاء بضعة آلاف من العسكريين الأميركيين كبعثة تدريب، لكنهما لم يتوصلا إلى حل وسط، حيث رفضت بغداد منح حصانة قضائية لأفراد هذه البعثة. وعلى خلفية ذلك، قررت واشنطن سحب كامل قواتها. وكان البلدان قد وقعا، في السابع عشر من تشرين الثاني نوفمبر 2008، اتفاقية الإطار الاستراتيجي(SFA)، التي أضحت نافذة المفعول اعتباراً من الأول من كانون الثاني يناير 2009، بعد أن صادق عليها مجلس الرئاسة العراقي في 4 كانون الأول ديسمبر 2008. وقد نصت هذه الاتفاقية على أنه: تعزيزاً للأمن والاستقرار في العراق، والمساهمة في حفظ السلم والاستقرار الدوليين، وتعزيزاً لقدرة جمهورية العراق على ردع كافة التهديدات الموجهة ضد سيادتها وأمنها وسلامة أراضيها، يواصل الطرفان العمل على تنمية علاقات التعاون الوثيق بينهما فيما يتعلق بالترتيبات الدفاعية والأمنية، دون الإجحاف بسيادة العراق على أراضيه ومياهه وأجوائه. وفي التوصيف المبدئي، يُمكن القول إن العراق يقع، على صعيد التجربة الأميركية، بين حالتي جمهورية الدومنيكان واليابان ويخوّل برنامج المبيعات العسكرية الخارجية (F.M.S) الجانب الأميركي شراء الأسلحة والمعدات لوزارتي الدفاع والداخلية العراقيتين. وقد أنشئ "مكتب التعاون الأمني" في السفارة الأميركية في بغداد، ليعنى بشؤون الاستشارات والتدريب والمبيعات العسكرية. ويتبع هذا المكتب أكثر من 225 عسكرياً أميركياً، وسبعة مدنيين، تابعين لوزارة الدفاع الأميركية، إضافة إلى 530 عضواً في فريق المساعدة الأمنية، وأكثر من 4000 موظف متعاقد بدعوة من الحكومة العراقية. كما يبلغ عدد العاملين من الجيش الأميركي الذين بقوا في العراق بعد العام 2011 حوالي 200 عنصر، يعملون لمصلحة هذا المكتب. وبطبيعة الحال، هناك طيف واسع من أولويات التسليح، إلا أن القضية الرئيسية الآن تتمثل في تعزيز القوات الجوية، وطيران الجيش، لتكون القوة العراقية قادرة على مواجهة قواعد وخطوط المجموعات الإرهابية، عالية التجهيز، التي يصعب التصدي لها دون غطاء جوي متين. وعلى الرغم مما حصل عليه العراق من عتاد ذي صلة بقدراته جوية، فإنه لا زال يعاني من ثغرات، وخاصة على صعيد المروحيات الهجومية، والطائرات المسيرة، وأنظمة الاستطلاع. ويُمكن أن تلعب الولايات المتحدة الدور المركزي في سد هذه الثغرات، في إطار شراكتها الاستراتيجية مع بغداد، وكجزء من مقاربتها للأمن الإقليمي، الذي يُمثل استقرار العراق إحدى متطلباته الأكثر حيوية. إن المبيعات العسكرية الأميركية للعراق يُمكن أن تأخذ مسارين متوازيين: يرتبط الأول بالأسلحة الرئيسية المعتادة، كالطائرات الحربية والدبابات وأنظمة الدفاع الجوي. ويرتبط الثاني بالأسلحة المعنية بالتصدي للمجموعات الإرهابية، والتي تشمل خصوصاً المروحيات الهجومية، والصواريخ المضادة للدروع، ومدفعية الميدان. على الصعيد الميداني العراقي، وإضافة للمعارك الدائرة في عمق البلاد، تدور على نحو مستمر معارك متنقلة على الحدود والتخوم الإقليمية، بين الجيش والمجموعات الإرهابية المسلحة، التي تمكنت في فترات معينة من السيطرة على عدد من المعابر. ولدى العراق حدود طويلة تبلغ 3650 كيلومتراً، تجاور ست دول، هي: إيران، التي تجاوره بحدود طولها 1458 كيلومتراً، والسعودية (814 كيلومتراً)، سورية(605 كيلومترات)، تركيا (352 كيلومتراً)، الكويت (240 كيلومتراً) والأردن (181 كيلومتراً). وشمالاً، مثلت عملية سلخ الموصل، وفصله عن سلطة الدولة الوطنية العراقية، تهديداً كبيراً لمستقبل العراق ووحدته الترابية، كما سلمه الأهلي وتعايشه الوطني. إن هذا الحدث بالذات قدم النموذج الأكثر تجلياً لعواقب الوضع السوري على استقرار المنطقة. وهو ما كان ليكون لو لا تمدد الأزمة السورية، وتضخم مضمونها الأمني. وهذا التعظيم الأمني للأزمة السورية، سمح لتنظيم (داعش) بحشد قوة عسكرية، متقدمة عدة وعديداً، والانطلاق بها من الجانب السوري لوادي الفرات باتجاه الداخل العراقي، والتقدم شمالاً نحو الموصل. من ثم إعلان ساعة الصفر، واحتلال المدينة. وقد يقول البعض إن جزءاً من المعركة خاضته تشكيلات عراقية. وهذا صحيح بالطبع، لكن هذه التشكيلات ليست هي الأصل، وإن الحدث الرئيسي صنعته قوة وافدة من الجانب السوري من الحدود. إن ثمة عدوان مليشاوي قد حدث ضد الدولة الوطنية العراقية والمجتمع الأهلي العراقي. عدوان انطلق على جناح الأزمة السورية وفي ظلالها. إن نقل تنظيم (داعش) للدبابات والآليات المدرعة من العراق إلى دير الزور والحسكة، ووصولها بعد ذلك إلى مدينة عين العرب – كوباني في شمال حلب، يشير، على نحو لا لبس فيه، إلى إننا بصدد انسياب متبادل للأخطار والتحديات، على مستوى لم نكن قد وصلنا إليه قبل بضعة أشهر خلت. إن مجموعات إرهابية مختلفة تعمل سوية على إنهاء العراق كدولة موحدة ذات سيادة. وتسعى لتحويله إلى دويلات عرقية ومذهبية متناحرة، تؤسس لعصر مظلم في هذه المنطقة، عنوانه القضاء على الدولة الوطنية، إحياء النزعات المذهبية والعرقية والجهوية. إن هذه القوى تبشر بعصر انحطاط سياسي، وتطالب الجميع بالرضوخ عنوة لإرادتها. وإن العراق لن يكون سوى البداية، إن تمكنت منه بالفعل، فالسيناريو قد يتكرر في دول أخرى عديدة. إن الحل بعيد المدى للوضع في العراق يبدأ بالضرورة بحل سياسي للأزمة السورية. حل يستند إلى حوار سوري داخلي. وعلينا أن نقر الآن، في ضوء الانسياب المتبادل للتحديات، بأن إحدى النتائج المباشرة والسريعة للعدوان المليشياوي على الدولة العراقية، قد تمثلت في تعظيم المضامين العسكرية للأزمة السورية، وتفاقم بُعدها الأمني التخريبي، وتزايد دور القوة الأكثر تطرفاً فيها، ممثلة بتنظيم (داعش)، الذي استعان بأسلحته الجديدة ليوسع دائرة نفوذه في الشمال والشرق السوري، ويعزز من مواقعه في حروب الاستحواذ، الدائرة على قدم وساق، مع الجماعات التكفيرية المنافسة، وخاصة جبهة النصرة. إن الحل السياسي للأزمة السورية قد أصبح يُمثل قناعة إقليمية ودولية متعاظمة، فضلاً عن كونه مطلباً سورياً وطنياً، تقول به الغالبية العظمى من السوريين. ومتى تحقق الحل السياسي الداخلي للأزمة السورية، فإن سحباً كبرى سوف تنقشع عن سماء العراق، ويصبح قاب قوسين من حل معضلاته الأمنية، بل والسياسية أيضاً. وفي الأحوال كافة، يبقى الدعم الأميركي للعراق حيوياً وضرورياً لمواجهة قوى التطرف والإرهاب التكفيري. وهذا الدعم، يجب أن يتخذ صوّراً وأشكالاً متعددة، دبلوماسية وأمنية وعسكرية، وخاصة لجهة تفعيل برنامج التسليح الجوي والإسراع به. وهذا ما وعد به الرئيس أوباما، الذي عاد وأكد أن لا استقرار في هذه المنطقة من دون عراق مستقر، متعايش مع نفسه وجيرانه، وفاعل في محيطه الدولي. ومن ناحيتنا، نحن أبناء هذا الشرق، ندعم كل جهد دولي صادق، يعين العراق على تحقيق أمنه واستقراره، وصيانة سلمه الأهلي.