معَ مطلَعِ كل شهرٍ وطيلةِ مدةِ خدمتِها التي قد تصلُ إلى أربعين عاماً وهناك مقصٌ ذهبيٌ يَستقطِعُ من راتبِها الشهري جزءاً للمعاشِ التقاعدي، نراها تركضُ في ميدانِ العملِ لا تكادُ تهدأُ ولا ترتاح، تماماً كجوادِ السباق في الميدان، تصارعُها الأنظمةُ واللوائحُ ومتطلباتُ الوظيفةِ وضغوطُ العملِ ومستجداته، تستحثُها الخطى حتى لا تتوقف برهةً تلتقطُ فيها أنفاسَها، فهمومُ العملِ تلاحقُها أينما ذهبت حتى في صلاتِها التي ينبغي أن تكون (أرحنا بها يا بلال) تجدُ نفسَها دون أن تشعر ترسمُ في ذهنِها خارطةً لمشروعٍ تطويري وآخر لحلِ مشاكلِ طالباتِها وتحدثُ نفسَها دائماً: (أرتاحُ بعد التقاعد)!! ويأتي التقاعدُ ويحتفي بها الجميعُ من حولِها، وتحدثُها نفسُها مرةً أخرى: الآن أتفرغ لنفسي وأسرتي وآخرتي. وفجأةً نسمعُ أن مراسمَ العزاءِ قد نُصبت لها، الأخت/ فلانة انتقلت إلى رحمةِ الله!! وبعد أن ينتهي كلُ شيءٍ تبدأ الأسرةُ بإجراءاتِ حصرِ الورثةِ ومتابعةِ المعاشِ التقاعدي، ويأتي الجوابُ القاتل: المرحومة ليس لها أي مستحقات، والمعاشُ التقاعدي قد توقفَ تماماً وليس لورثِتها الحق في شيءٍ منه!! هل تعلمون من هي هذه الموظفة؟ إنها تلك التي عملت سنوات طويلة وأنجبت وكبُر أولادُها حتى تجاوزوا سنَ الرشد!! إنها تلك التي لم تتزوج فلم تنجب!! إنها تلك التي تزوجت ولكنها لم تُرزق بذرية!! توقفَ المعاشُ التقاعدي على الرغمِ من حاجةِ أسرتِها الشديدِ إلى هذا الموردِ المالي، فهناك والدان كبرا في السن وهي المعيل لهما أو لأحدهما، وهناك أبناؤها -حتى لو كبروُا- كانوا يعتمدوُن على معاشِها في تدبيرِ أمورِ معيشتِهم، فالمتطلباتُ الحياتيةُ باتت كثيرةً. في الغرفةِ التجاريةِ بالدمام عُقد اجتماعٌ لمناقشةِ (المتقاعد ما له وما عليه) وطَرحتُ سؤالي: لماذا لا يستمرُ صرفُ المعاشِ التقاعدي للمتقاعدةِ المتوفاة؟ وما مصيرُه؟ وإلى أين تتجه مصارفُه؟ ويأتي الرد: يذهبُ لعائلةٍ أخرى قد توفي عائلُها قبل أن يبلغَ سن التقاعد فقد خلفَ وراءَه ذريةً ضعفاءَ بحاجةٍ إلى موردٍ مالي، وذلك تطبيقاً لمشروعِ (التكافل الاجتماعي)!! كتبتُ وكتبَ غيري في هذا الموضوع كثيراً ولكن دون مُجيب!! وأتساءلُ: هل أُخذت موافقةُ الموظفةِ مسبقاً على تحويلِ معاشِها التقاعدي لآخرين؟ وهل هناك نصٌ صريحٌ جاء في عقدِ العملِ لهذا الإجراء؟ وهل سيستمرُ هذا الوضع إلى الأبد؟ وما ذنبُ أسرةِ المتوفاةِ في أن يُحرموا من معاشِ الأم؟ ثم السؤال الأخير: إن هذا الإجراء يمسُ (بالميراثِ) مباشرةً، فهل اعتمد هذا النظام بعد الرجوعِ للجهاتِ الشرعيةِ وهيئةِ كبارِ العلماءِ أو لسماحةِ المفتي؟ ويأتي سؤالي هذا من باب (ليطمئن قلبي) وهو اطمئنانٌ سبق وأن طلبَه سيدُنا إبراهيم عليه السلام من رب العزةِ والجلالة، ومع جراءةِ هذا الطلب إلا أن الله عز وجل لم يغضب بل جاءهُ بالردِ الذي حققَ لسيدِنا إبراهيم ما أراده! بعد اجتماع الغرفةِ التجاريةِ جاءتني مديرةُ إحدى الدوائرِ الحكوميةِ، وقالت لي بالحرفِ الواحد: شكراً على طرحِك لهذه القضية، لم أُرزق بزوجٍ ولا ذرية وأنا الآن على مشارفِ التقاعد، فإذا قدرَ اللهُ لي الوفاةَ من اليومِ الثاني لتقاعدي فإن معاشي سيتوقفُ تماماً ولن يستفيدَ منه أحدٌ من عائلتي على الرغمِ من أن مدة خدمتي تجاوزت الثلاثين عاماً وطوال هذه المدة يُستقطعُ من راتبي شهرياً للتقاعد!! وأنا بدوري أضمُ صوتي لصوتِها ولصوتِ مئاتِ الآلافِ من الموظفاتِ المتقاعداتِ ونكررُ أسئلتنا: لماذا لا يستمرُ صرفُ المعاشِ التقاعدي لورثةِ الموظفةِ المتقاعدةِ المتوفاة؟ وبماذا يُفسَرُ تحويل المعاشِ التقاعدي لأسرةٍ أخرى لا تربُطهم بالمتوفاةِ أي صلةٍ ولا قرابةٍ؟ وإن سُدت طريقُ العودةِ فلماذا لا يُصرفُ هذا المعاش في أوجهِ الخيرِ بالدولةِ فتكون صدقةً جاريةً عن الموظفة المتوفاة (بناء مساجد، حفر آبار، إنشاء مدارس ومستشفيات، كفالة أيتام....)؟ وماذا بعد؟ باسم جميع أخواتي المتقاعدات أناشدُ حكومتَنا الرشيدة- وهي التي تحرصُ أثابَها الله على أن تكون جميعُ أنظمةِ الدولةِ مستمدةً من الكتابِ والسنةِ- إعادةِ النظرِ في نظامِ التقاعدِ وتعديلِه بما يناسبُ حاضرنا، فما كان يصلحُ في الماضي لا يمكن استمراره حالياً بنفسِ أنظمتِه القديمة، فظروفُ المعيشةِ قد تغيرت 100% في الختام: يا رب: إن كانت صحيفةُ (متقاعدةٍ تُوفيت) قد امتلأت بالذنوبِ والخطايا فامحُها اللهم بذاك المال الذي لم تأخذهُ معَها للآخرةِ ولم تصرفهُ في الدنيا، فاجعله صدقةً جاريةً عنها وعن ورثتِها المحرومين تمحُو بها كلَ الذنوبِ والخطايا وادخلهم جنات النعيم، يا رب: إن جودَك وكرمك ورحمتك هي الأشمل. خبيرة إدارية – تربوية