×
محافظة المنطقة الشرقية

أستراليا «تصفح» سيارات زعماء قمة «العشرين» ضد القنابل

صورة الخبر

لن أتحدث اليوم بشكل مستفيض عن أخطار الطائفية المحدقة بنا، تلك الطائفية التي فتكت – ولا تزال تفتك – بالمجتمعات من حولنا؛ لأنني سبق وأن تحدثت عنها في أكثر من عشر مقالات نُشرت كلها هنا في (الرياض). هذا من جهة، ومن جهة أخرى؛ لن أتحدث باستفاضة عن أخطار هذه الطائفية؛ لأن الخطر الطائفي أصبح من المُتعين الواقعي الذي يراه الناس أشلاء ودماء وتشريداً وتدميراً على شاشات الإعلام الفضائي كل يوم؛ فبات يعقله حتى أبسط الناس تفكيراً وأقلهم تدبراً في الواقع والمآل. لهذا، سيكون اهتمامي منصباً على إشكالية أعم وأشمل وأخطر: إشكالية الوطن والمواطنة، ومنهما يمكن التعريج على الأخطار الطائفية كإحداى محاور هذه الإشكالية. وسأحاول جهدي أن يكون حديثي مختصراً ومباشراً، حتى لو اقتضى ذلك الإخلال بكثير من شروط المقاربة العلمية التي تستلزم تناول الظاهرة من أبعادها اللامنظورة واللامباشرة، قبل المباشرة والمنظورة؛ لأن المَعْنِيَّ بهذا الخطاب – بصورة أولية - هم عموم جماهير الخطاب الديني التقليدي الذين جرى – في غفلة من الزمن - تجريف وعيهم الفطري بالوطن وبحقائق الدين على حد سواء. رغم مأساوية ما وقع في الأحساء من جريمة لها بُعدها الطائفي الواضح؛ إلا أنها قد تكون أنقذتنا من أخطبوط فكري حركي كان ينمو ويتغوّل في نسيجنا الاجتماعي. كان ينمو ويتغوّل؛ بينما نحن في غفلة من إحسان الظن، ومن تهوين غير الهيّن في الخطابات الإقصائية التي تمتهن تصدير الكراهية بالمجان. ربما كانت أرواح الضحايا - رحمهم الله - فداء لأرواح كثير منا، بل ربما كانت فداء لمستقبل أجيال وأجيال ستأخذ طريقها إلى الحياة بصورة مختلفة، بصورة أكثر مدنية وأشد تحضراً؛ بعد أن أيقظها الإرهاب من سُبات الإيديولوجيات الفارغة إلا من الرعب، ووضعها وجهاً لوجه أمام حقيقة أن الوطن هو الموئل الأول والأخير للإنسان. ما حدث في الأحساء كان ضربة موجعة أيقظت معظمنا من غفلته، وتحديداً فيما يخص قيمة الوطن كفضاء للعيش المشترك الآمن، كما عرفتنا أن ثمة وعياً مطموراً، وعياً كامناً في الأعماق بضرورة الأمن؛ وعيا لم يتعرف عليه حتى أصحابه، وذلك أن هذا الأمن الذي يتفيأ الجميع ظلاله ظل طوال العقود الماضية حقيقة واقعية لم تُخترق، بحيث بدا وكأنه من البدهيات المُتحقّقة بمحض الوجود الطبيعي. اليوم، وبعد أن أفاق أكثرنا على حقيقة أن الأمن ليس وجوداً طبيعياً، بل هو مُنْجز بإرادة وفعل وتصميم ومتابعة وتضحيات معلنة وغير معلنة، وأنه ليس مضموناً على الدوام، وفي كل الأحوال، بل قابل لأن يُخترق؛ في حال لم يتوفر إجماع حاسم، إجماع مجتمعي ومؤسساتي على صيانته؛ خاصة في الفترات التي تتصاعد فيها مستويات الجريمة الجنائية أو الإرهابية. وكما بالمرض يعرف الإنسان قيمة الصحة التي كان يعدّها قبل المرض مسألة مفروغاً منها، كذلك بالخوف وبالوقائع الإجرامية البشعة يعرف الإنسان قيمة الأمن الذي يعده قبل الخوف مسألة مفروغاً منها. ومن هنا يتضح للجميع أن التهديد الأمني في أي جزء من أجزاء الوطن، وفي أي مستوى من مستوياته، هو تهديد مباشر لكل فرد/ مواطن، لا في حاضره فقط، وإنما في مستقبل أجياله أيضاً. إن حادثة الأحساء كشفت عن حقيقة كان بعضهم يريد التعمية عليها، وهي أن الأغلبية من أبناء هذا الوطن ليسوا طائفيين وليسوا مُتعاطفين مع خطابات الكراهية، أي الخطابات الأصولية المتطرفة التي تصدر عن رؤى تكفيرية صراحة أو ضمنا. فانتفاضة الوطن من أدناه إلى أقصاه لإدانة هذا الفعل، والتضامن اللامحدود مع أهالي الضحايا من المدنيين والعسكريين، وكون أبطال المواجهة العسكرية مع من لهم علاقة بهذا الاعتداء الآثم ينتمون طائفياً إلى غير طائفة الضحايا؛ كل هذا أكد على أن المسألة مسألة وطن ومواطن؛ قبل كل شيء؛ وبعد كل شيء، أي فوق حسابات الطوائف والتحزبات الضيقة التي يحاول بعض المتعصبين مذهبياً إيهام كثير من الأتباع الرعاع أنها أهم من الوطن الذي يحتضن الجميع. أجمل ما في مفهوم الوطن كونه إطاراً مدنياً للتسامح الإنساني. ما خفف الألم في حادثة الأحساء، أن رجل الأمن السني يُطارد ويقتل متطرفاً إرهابياً سُنّياً؛ لحماية شيعي، لا لأنه شيعي، وإنما لأنه مواطن. هكذا تبدو الصورة طائفياً (وفيها ما فيها من جمال الوحدة الوطنية والتسامح)، لكنها في الحقيقة الأجمل، هي باختصار: رجل أمن شجاع يطارد مُجرمين (بصرف النظر عن هويتهم) لأنهم اعتدوا على مواطنين أبرياء (بصرف النظر عن هويتهم). ما حدث كان نتاج فكر تكفيري إرهابي. وإذا كان التطرف والإرهاب مشكلة تعاني منها معظم الدول الإسلامية، بل وحتى كثير من الجاليات الإسلامية في الغرب، فإن بؤرة هذا الإشكال الذي تثيره الأصولية الإسلامية المتطرفة لا يكمن في مجرد العنف من حيث هو سلوك عيني، وإنما فيما وراء ذلك، وتحديداً في الأممية التي تتبناها الأصوليات بشكل متطرف، بل ومتطرف إلى درجة إلغاء الوطن القُطْري بالكامل. فالوطن القُطْري لا وجود له في مجمل التصورات الدينية التي يطرحها هؤلاء المتطرفون. إنهم لا يرونه – في أحسن أحوالهم – إلا محطة انطلاق، أو استراحة عبور، بل وفي بعض الأحيان يرونه عائقاً أمام الأممية التي يُنشدونها، ويبذلون أرواحهم في سبيل تحقيق وسائلها؛ وصولاً إلى التجلي الأبرز والأهم لهذه الأممية: الخلافة!. ولهذا لم يكن غريباً أن يقول المرشد العام الأسبق للإخوان المسلمين في مصر: " طز في مصر" عند حديثه عن الأهداف العابرة للحدود. أستطيع أن أقول بكل ثقة: إن كل التيارات الدينية التقليدية التي تستمد تصوراتها العامة من التاريخ لا تقيم للوطن وزناً يوازي حجم أهميته الحقيقية في الواقع، بل بعضها لا تقيم للوطن وزناً البتة، وربما تصورته كثيرٌ من التيارات الحركية عائقاً أمام مشاريعها العابرة للحدود، ومن ثمّ اتخذتها عدواً. هذه حقيقة يعرفها كل من عاش ويعيش أجواء تقلبات الطقس الوعظي، الذي قد يتجه ذات اليمين، وقد يتجه ذات اليسار؛ إلا أنه – وفي كل أحواله – لن يضع الوطن أولاً، الوطن الذي لا يُريد هذا الواعظ أن يعترف أنه يعيش عليه، ومنه، وبه، وأن وجوده قد ينتفي بانتفاء هذا الوطن الذي يضعه – إن رأى له موضعاً – في آخر سلم الاهتمامات. طبعاً، أنا هنا لست ضد العواطف والمشاعر العابرة للحدود، ولا ضد الانتماء إلى إطار إنساني عام، بل ولا ضد أن تكون للإنسان ميول إلى هذا التوجّه أو ذاك، كل هذا حق لأي أحد، بل وطبيعي من حيث محض الوجود الإنساني في مستوى انتماءاته الاجتماعية المتنوعة. لا ضير في كل هذا؛ شرط أن يأتي الوطن أولاً، أن يكون الوطن بحدوده الجغرافية وبكيانه المتمثل في تشكله النظامي/ القانوني هو محور الانتماء الذي تتمفصل على مصالحه الحيويّة بقية الانتماءات الأخرى ذات البعد العاطفي، أو حتى ذات البعد المادي المباشر. الواجب الأكيد هو أن يكون الوطن أولاً، ومن ثم تأتي كل هذه الميول، بل إن من كمال الفاعلية الإنسانية وجمالها الأسمى أن يتسع الإنسان عقلاً وعاطفة إلى ما هو أبعد من مصلحته الخاصة التي تتجسد واقعاً في الوطن الخاص الذي هو الإطار الحقيقي لوجوده. لكن، لا تكون التضحية بالوطن (الذي يكفل هذا الوجود) لأجل آخرين، آخرين قد تنفعهم هذه التضحية قليلاً، وقد تكون وَبَالاً عليهم، ودماراً لأوطانهم القُطرية التي تحتضن وجودهم، والتي يجري تدميرها – بحسن نية أو بسوء نية - على يد الأُمَمِيّن، على يد الأممين الذين يحتقرون الأوطان أو يُهملونها لحساب أوطان أخرى؛ فتكون النتيجة تدمير هذه وتلك لحساب وَهْم جميل! ولتكون الصورة أوضح، أقول لجماهير الوعظ التقليدي الأممي: إن من حقك أن تُحسن إلى أصدقائك وزملائك، وأن تُقدم لهم الكثير من المشاعر الصادقة ومن الدعم المادي؛ لكن لا يكون ذلك على حساب برّك بوالديك، ولا على حساب اعتنائك بنفسك وأهل بيتك، هؤلاء الذين يجب أن تكون لهم الأولوية دائماً. إن مَنْ يُقدّم الدعمَ المعنوي والمادي لأصدقائه وزملائه، بل وللإنسان عامة، هو إنسان راقٍ وجميل ويستحق التقدير والاحترام والتبجيل، ولكن – في الوقت نفسه - مَنْ يقدم هذا الدعم لأصدقائه وزملائه على حساب أمه وأبيه وأهل بيته؛ هو إنسان ناقص الإنسانية، إنسان عاق وناكر للجميل، ولا يستحق إلا الإدانة والازدراء. لقد أشْبَعنا الوعاظُ ورموز الطرح العقائدي الأممي بأدبيات الوحدة الدينية والمذهبية مع بقية الشعوب العربية والإسلامية. وبسبب هذا الطرح السقيم أصبحنا نهتم بمشاكل الآخرين أكثر بكثير من اهتمامنا بمشاكلنا، أصبحت مصلحة بورما وأفريقيا الوسطى ومالي، فضلاً عن سورية والعراق أهم من مصلحة وطننا الذي تتحدد (نوعية حياتنا) بناء على ما يحدث له تحديداً، وليس بناء على ما يحدث في بقية الأقطار؛ مهما كانت أهميتها في الوجدان العام. مشكلة الوعي الديني التقليدي أنه يستمد تصوراته السياسية التي يُعمّمها على جماهيره من وعي ماضوي لا علاقة له بالحاضر، أي أنه لا يرى الحاضر بكل تعقيداته وتحولاته إلا بعيون السابقين. وبالتالي هو لا يراه حقيقة، بل يرى أوهامه في الواقع. الوعي الديني التقليدي لا يستطيع أن يدرك حقيقة باتت واضحة إلى درجة أنها تعيش معنا في كل تفاصيل حياتنا اليومية، وهي أن المواطنة الحديثة هي مواطنة محدودة بحدود الجغرافيا، وليست بحدود الأديان أو المذاهب أو الإيديولوجيات العابرة للحدود. كل الحقوق، وكل الواجبات، وكل المسؤوليات القانوينة – محلياً ودولياً - تتحدّد اليوم من خلال الانتماء إلى وطن جغرافي محدد؛ به وبظروفه يسعد الإنسان أو يشقى، ولا يسعد أو يشقى بما يحدث لأوطان الآخرين؛ حتى وإن كان من عُشّاقها المُتَيّمين. متى يدرك الجميع أن الوطن هو الحاضر والمستقبل، وأنك بلا وطن تكاد تكون خارج الوجود؟. متى يدرك الجميع أن حدود الوطن هي التي ترسم حدود سعادتهم أو تعاستهم، وأن مصيرك ومصير مواطن لك على بعد ألف ميل من مكانك يكاد يكون متماثلاً، بينما على الضفة الأخرى من الحدود التي قد لا تبعد عنك أكثر من ميل واحد، يعيش الإنسان حياة مختلفة تماماً، لا في الأمن ولا في الوفرة ولا في البنى التحتية...إلخ فحسب وإنما – أيضاً - في المستقبل الواعد لأجيال وأجيال؟ متى يدرك المواطن – أياً كان موقعه، وأياً كان مذهبه، وأيا كان توجهه الفكري – أن الأمة الواحدة مجرد وَهْم، أنها مجرد وَهْم؛ مهما تضخّمت في الوجدان، وأنه هو وإخوانه وأولادهم وأحفادهم لن يستفيدوا شيئاً لو أصبحت مالي أو أفغانستان...إلخ أقوى وأغنى دولة في العالم، بينما سيسعد هو وإخوانه وأولاده وأحفادهم لو بقي هذا الوطن في مثل هذا الأمن وهذه الوفرة؛ حتى لو اختفت مالي وأفغانستان أو غيرهما من الوجود؟ هذا هو المحور الأهم الذي أردت التركيز عليه هنا، والذي يجب أن يكون منطلقاً لحل إشكاليات الاختلاف والتنوع الداخلي. أما الطائفية وخطابات الإقصاء والكراهية ففي ظني أن الأغلبية الساحقة بدأت تعي خطورتها، وأنها يجب أن تُحاصَر بقوانين وأنظمة رادعة، فضلاً عن مواجهتها الفكرية بخطاب التسامح التنويري الذي يُمهّد فكرياً ووجدانياً لمُواضعات التعايش السلمي. ولعل من إيجابيات حادثة الأحساء أن كثيراً ممن كان متردداً في التفاعل مع خطاب التسامح الذي يضمن للجميع بدهيات التعايش السلمي؛ أصبح اليوم مؤمناً بضرورة تفعيل هذا الخطاب، وأن البديل عنه ليس إلا خطاب الكراهية الذي لن يؤدي إلا إلى ضياع الجميع.