لو كنت أؤمن بالمؤامرة سبباً لبعض الظواهر الحديثة وغير المبررة لجزمت أن ما تُمارسه (داعش) هي مؤامرة على الإسلام لإظهاره بهذا المظهر الدموي والمتوحش وغير الإنساني بمقاييس العصر. غير أن من يقرأ أدبيات بعض المشايخ المعاصرين ممن يصرون على استحضار التاريخ البعيد بكل تفاصيله الحياتية الصغيرة وفرضه على الواقع واعتبار أن هذا من متطلبات الدين وشروطه يُدرك أن داعش والقاعدة هما نتاج طبيعي لهذا الفكر الماضوي الذي لا يرى الحاضر فضلا عن المستقبل إلا من خلال عصور خلت وانتهت ويعتبر أن العودة إلى حياة الماضي بأدق تفاصيلها آنذاك من مقتضيات الدين. أما النتيجة لهذا الفكر فكانت (داعش وأخواتها)! الغريب الذي ألاحظه على بعض المشايخ في بلادنا وكذلك أتباعهم من العوام والدهماء، أنهم يتفقون بشكل يكاد يكون إجماعياً - إلا ما ندر - على أن (داعش) ظاهرة تُسيء للإسلام وتشوهه في هذا العصر ويجب العمل على اجتثاثها كحركة وكفكر ثم إذا سألتهم عن بعض التفاصيل التي تطبقها داعش وهل هم بقرونها أو يعارضونها تجدهم يتهربون من الإجابة الواضحة الجلية، لأنهم يدركون أن الإقرار بعدم صوابية هذه الممارسات التفصيلية يعني بالضرورة أنهم ينسفون (منهجهم) الذي يعتبر أن الحياة وتعاملاتها في القرون الماضية وليس فقط نقاء العقيدة هي (المعيار)، فالمسلمون في القرن الأول كانوا يعتبرون أن (جهاد الغزو) - مواكبة مع شروط عصرهم لنشر الإسلام - واجب، وكانوا يسبون غير المسلمين من المحاربين وبسترقونهم، وكانوا يفرضون (الجزية)، وكانوا يقاتلون كل من يستطيعون قتاله (ابتداء) من غير المسلمين ويستبيحون دماءهم؛ بل إن بعض السلف يرون كذلك استباحة دماء بعض طوائف المسلمين ممن سموهم (الطوائف الممتنعة) وقتالهم وقتلهم لأنهم حسب معاييرهم (مرتدون)، حتى وصل التطرف بأحد فقهاء السلف إلى اعتبار الشيعة أكفر من اليهود والنصارى؛ ثم تساءل: ألستم من يطالب بجلب حياة الماضي إلى عالم اليوم، في كل تفاصيل الحياة وتتخذون من ذلك منهجًا لكم؟ فلا تجد إجابة شافية إلا الشتم والتقريع والتشكيك في نواياك. الإسلام - أيها السادة - كما نزل على محمد بن عبدالله عليه أفضل الصلوات وأجل التسليم هو دين وعقيدة؛ ومن يقرأ ما اصطلح الفقهاء الأوائل على وصفه بأركان الإسلام، التي بها يدخل المسلم إلى دين الإسلام، ليصبح دمه حراماً وعرضه حراماً وماله حراماً، لوجدها خارج نطاق الخلافات السياسية والمذهبية؛ وأنها تتعلق (بالفرد) ولا تمتد للمجتمع؛ فلا أحد في عالم اليوم، عالم الحريات، سيقول لك لا تشهد ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ولا تُقيم الصلاة ولن يمنعك من صوم رمضان ولا أن تؤدي الزكاة ولا أن تحج إذا استطعت إليه سبيلاً، والسؤال: لماذا لم يُلحق الفقهاء (الجهاد) مثلاً بأركان الإسلام، ولماذا لم يُلحق السبي واسترقاق الأعداء وفرض الجزية عليهم بعد حربهم وهزيمتهم أيضاً؟، بل لماذا علق الخليفة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حد السرقة في عام الرمادة بسبب المجاعة ولم يُطبقه مع أنه أمرٌ قرآني بحجة أن مصلحة المسلمين (حينها) تتطلب عدم تطبيقه؛ ألا يعني ذلك أن المعيار مصلحة المسلمين تدور معهم (أحكام الشريعة) حيث دارت ظروفهم ونوازلهم؛ تبعاً لها لا تعالياً عليها؟.. ثم ما رأيكم بهذا الحديث الصحيح المتفق على صحته عند البخاري ومسلم: (جاء رجل إلى رسول الله من أهل نجد ثائر الرأس نسمع دويَّ صوته ولا نفقه ما يقول حتى دنا فإذا هو يسأل عن الإسلام. فقال رسول الله خمس صلوات في اليوم والليلة، فقال: هل عليَّ غيرها؟.. قال: لا إلا أن تطوع، قال رسول الله: وصوم رمضان فقال: هل عليَّ غيره؟ فقال لا إلا أن تطوع، وذكر له رسول الله الزكاة، فقال: هل علي غيرها؟ قال لا إلا أن تطوع فأدبر الرجل وهو يقول: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص، فقال: أفلح إن صدق أو دخل الجنة إن صدق).. فالرسول عليه الصلاة والسلام أقرَّ له بالفلاح ودخول الجنة، فكيف يستقيم ذلك مع منهجكم الذي يُبيح دم كل من حكم له الرسول بالجنة لأنه يختلف مع اجتهاداتكم خارج هذه الشروط! هذا هو الإسلام والطريق إلى الفلاح حسب شهادته صلى الله عليه وسلم وليس تصنيفات الدواعش ومنهجهم ومن سايرهم. إلى اللقاء نقلا عن الجزيرة