ما حدث في الأحساء, وتلاه من تعاضد المجتمع باختلاف فئاته، لفَّ دولاب الأيام في ذاكرتي لعقود ثلاثة مضت، نزلت فيها الأحساء, وجازان, والخبر, وتبوك, وبريدة, وعنيزة, والدمام, وأبها, كما نزلت جدة، ومكة، والرياض، والطائف, أحمل أوراقي وأفكاري تارة بصفة شخصية، أو ملفاتي وبرامجي الرسمية والأكاديمية تارة أخرى.. وفي كل لقاء فيها بنساء الوطن لم أكن أرى إلا السمات الواحدة، والمبادرات المتشابهة, والوجوه الأليفة, مع اختلاف يسير في اللهجات المحلية, غير أن محبة الوطن, والحرص على العمل المشترك, والإقبال على قراءة الفكر, وتبادل البرامج العلمية, والمشاركات الأكاديمية, والاحتفاء بالقلم، والزخم العاطفي, والود الجمعي, كان يسود كل لقاء, ويميز أي احتفاء.. استعدت أول زيارة لي لمدينة الأحساء حين كنت وكيلة لعميد شؤون الطلاب، أول منصب إداري لي في الجامعة, وكانت هناك طالبات يفدن من المناطق جميعها في أرجاء الوطن ليتلقين تعليمهن الجامعي في جامعة الملك سعود بالرياض، وينزلن في إسكان الجامعة للطالبات, فرغبت في تبادل خبرات إسكان طالبات الجامعة بتجربة جامعة الملك فيصل في الأحساء والدمام، فذهبت مع اثنتين من أعضاء هيئة التدريس ومديرة الإسكان لهناك وتبادلنا المعلومات، فانتهزت حينها مسؤولات الجامعة الفرصة هناك فطلبن مني لقاء أدبياً مع الطالبات في الجامعة وخارجها, لتكون أمسية أدبية امتدت لخارج أسوار الجامعة، حتى أنني شعرت بأنني أحلق في فضاء الأحساء, وقد وضعت في الجامعة، والمدارس، وخارجها ملصقات احتفاء.. ودعوة للحضور.. وعندما حضرن لم يتسع المكان فامتد وامتد.. وعدت أحلق بأكثر من أجنحة.. وحدث هذا فيما بعد معي على مدى عقود ثلاثة وأكثر.. في لقاءات رسمية, وأكاديمية, وندوات علمية, ومناقشات رسائل دراسات عليا.. وأمسيات قصصية، ومشاركات وطنية.. ومثل هذا لقيته في كل بقعة جميلة من أرض الوطن.. إلحاقاً لما سبق, وامتداداً لما أتى.. ليس الهدف من ذكر هذا الاحتفاء الشخصي، فما كان يوماً همي، ولا مبلغ غايتي, وإنما الهدف من ذكره هو تسجيل حقيقة واقع هذا التكوين المتجانس لأرجاء الوطن، والنسيج المتلاحم بينها الذي شعرت به ماثلاً لأنفاس واحدة تتمازج في فضاء الوطن, وهي تشهق وتزفر معاً على قلب ود صادق.. ما يجعل أحدنا لا يشعر بغربة وهو يحل في بقعة من هذا الوطن وإنما يجد نفسه في بيته, وبين أهله.. ونحن نتبادل الخبرة، والمعرفة, والتجربة الإدارية, والعلمية, بمثل ما نلتقي على نبع الأدب وذائقة الفكر, وعبارة اللسان.. ثم ها هو النسيج يلتقي الآن نبضه على أمن الوطن.. فهذا التكوين هو الذي تجلى واضحاً ملموساً لواقع جميل, في هذا الالتفاف الوطني من جميع فئات وشرائح المجتمع بعد حادثة الأحساء.. ينم عن أن هذا النسيج قوي متين, غير قابل لأن تندس فيه دودة، ولا أن يعتريه كلح.. ليدم ناصعاً ما دامت له ابتسامة الود.. وكف العضد.. وقلب لا يعرف الدكن.. مهما اختلف الرأي, وتفاوتت المسافات.