في عملية الكتابة الإبداعية، التي تتمحور حول الذات، تظهر الذات الكاتبة والمعاشة مكشوفة، وفعل الكتابة يقوم بمساعدة الخيال بالتمويه على هذه الذات وتغطيتها، ويمكن اعتبار المجموعة القصصية القصيرة جدا، لمنيرة الأزيمع: «الطيور لا تلتفت خلفها» من تلك الكتابات التي تحاول أن تندرج ضمن النزعة التخييلية، هذا النزوع في المجموعة، والذي يتماشى مع ذلك الفعل، في محاولة المزاوجة بين جنس السيرة الذاتية وبين جنس القصة القصيرة جدا.. فإذا هي ــ كمجموعة ــ سيرة ذاتية طويلة الحلقات، حاولت مجموعة النصوص المؤتلفة منها أن تتحول إلى مجموعة مرايا تعكس الذات وتجليها، وذلك خلف لغة رمزية حاولت أن تواريها هي كذات. وبهذا الفعل المزدوج: فعل محاولة تجلي الذات من خلال المرايا المختلفة، والتي كصور تحاول أن تأتلف منها المجموعة القصصية القصيرة جدا، أي والتي هاهنا، موضوع هذه الدراسة ــ من جهة، ومن جهة أخرى فعل محاولة تورية الذات أو البوح والمعنى، حتى لا ينقاد النص بذلك، أو كما حذر الجرجاني، قديما، إلى عريان الكلام. وبهذه الطريقة وجدنا المبدعة تختار لغة رمزية تواري بها بوحها، وساعية بذلك لتحقق لبوحها ولتجربتها القصصية فنية وجمالية خاصة، تبعدها عن ما هو لغة تقريرية. وهكذا نجد النصوص القصصية تحاول أن تحمل في وعائها، وأن تكتنز في داخلها، ذات المبدعة التي تحاول أن تتوارى خلف قناع اللغة، وخلف قناع الرموز، وخلف هذا العالم المتخيل، فقد حاولت أن تتركز وظيفتها السيكولوجية في محاولة إخفاء الذات المتألمة للمبدعة. هكذا، يتحول القناع إلى جدار يسعى لأن يقاوم عين المتلقي، ويجعله عند السطح فقط، يتلهى بالقشور، حتى لا ينفذ إلى تلك الذات المتوارية. وهكذا، تحاول النصوص أن تتحول إلى لغة قريبة من لغة الحلم، أي إلى موضوع للتأمل والتأويل. إنها لجأت إلى لغة الرمز، والإضمار. والذات تلك ستجد بعض تجلياتها، أو بعضا من تمظهراتها التصويرية والأسلوبية، وانعكاساتها المرآوية، في لغة الإشارات، والتلميحات، وفي النصوص نفسها. على اعتبار ما أنها تلمح دون أن تصرح. وتستعير لغة رمزية قوامها الطيور وأشياء أخرى ـــ يحاول أن يتأثث منها الفضاء المتخيل، والذي حاولت المبدعة أن تستعيره لبوحها ـــ تحاول أن تبني بها بناءها ومتخيلها التعبيري، والذي من خلاله يحاول أن يظهر البوح وأن يتجلى، خصوصا إذا ما تم التوجه إلى بنية الرموز؛ كالطيور ــ مثلا، وذلك بغية تقصي دلالتها، أو ما تحاول المبدعة أن تعبر بهذه المستويات الأسلوبية الرمزية من شيء. وتتكلم عن أشياء رمزية، عن طيور وأشياء أخرى تستعيرها، هكذا صارت الطيور، وكعالم رمزي يسعى لأن يواري ذات المبدعة، معاناتها وسيرتها الذاتية، تماما كما أن نفس الرمز يسعى لأن يواري ويخفي، فإنه يسعى ــ من جهة أخرى ــ لأن يمثل الذات ويجسدها. وهذا الأمر الأخير يعني ــ فيما يعنيه ــ أن النص يسعى لأن يطالب المتلقي بأن يبذل نوعا من الجهد في سبيل جعل الرمز ينطق من خلال مرآته، التي تحاول أن تجلي أسرار ما حاول الرمز أن يخفيه أو يحمله، ما دام هو وعاء. ومن السبل التي يمكن أن يتبعها المتلقي، في محاولة استجلاء ذات المبدعة، رصد مختلف السمات التي يتم إسنادها إلى المكونات السردية أو القصصية في نص ما من النصوص الإبداعية. وإذا تتبعنا السمات، في نصنا، أو في المجموعة القصصية، فإننا سنجد أن السمات التي حاولت أن تسندها منيرة الأزيمع إلى أحد مكونات النص الموصوف أو المصور، الطير، فإننا سنجد أن تلك السمات أو الطريقة التصويرية حاولت أن تتبعها في تصوير الطير، هي نفس السمات التي يمكن أن تسند إلى إنسان ما. من هنا يكون التصوير، أو محاولة خلق صورة أو مشهد أو موقف، موجه من قبل الفكر، أو عقل المبدع الذي يحاول رسم وتصوير معنى ما؛ لذلك يكون المعنى مركوزا في عقل المبدع، ومضمرا في النص، ولا يكون ظاهرا بشكل حسي أو مباشر في النص. وما دل على ذلك، هو تلك السمات والأوصاف الإنسانية، والتي رأينا المبدعة تسعى لأن تسندها لكائن حيواني يتمتع بالطيران، كما يتمتع بالقدرة على التحليق، والتنقل السهل. والقدرة على التخلص من العالم السفلي، وسهولة التعالي، والترفع عن ما هو سفلي مقيد؛ لمحاولة الالتحاق بالعالم العلوي، والذي لا تحده حدود، ولا تقيده قيود. عالم الطير يجسد فكرة الخلاص والانعتاق، لكن الخلاص من ماذا، والانعتاق من ماذا، ولماذا توسلنا بالطير لنعبر به كعالم تصويري ومستعار عما نريد أن نقوله من خلاله؟ ومعنى هذا: لماذا لم نحاول استعارة صورة بلاغية أخرى، وعالم مستعار أو مجازي آخر؛ لنقول به ــ وكشكل مادي ــ بوحنا، ونحاول أن ننجز النص ونعمل على محاولة نسجه وإنجازه من خلال ذلك؟. * ناقد مغربي