مَتَى عَنَّ لِي مِن ذِكرِ قَومِيَ سانِحُ فَلا تَسأَلا ماذا تُلاقِي الجَوانِحُ وَإِن هَبَّ غَربِيُّ النَّسِيمِ فَبَردُهُ لَهُ القَلبُ مِنِّي قَبلَ أَنفِي مُصَافِحُ وَإِن ذَكَرُوا الأَحساءَ فَالقَلبُ خافِقٌ كَما خَفَقَت بِالرَاحَتَينِ المرَاوِحُ بِهذه الأبيات وصف شاعر الأحساء عبدالعزيز بن حمد آل مبارك مشاعره عند ذكرهم الأحساء في حضرته، نعم ؛ إنها الأحساء الغالية، بلد النخيل العالية والعيون الجارية، حق له أن يبدع فيها قافيته، وقد خفقت قلوبنا نحن حين ذكرت لنا الأحساء، كادت أن تطير قلوبنا وقد سورت بقفص البعد عن الوطن الغالي، والأخبار تنقل عن جرحها الغائر، ولم يكن خفقان القلب إلا حزنًا وتألماً لما حل في الأحساء من حادثٍ تستنكره القلوب الحية، التي ارتوت من الرحمة التي بعث بها سيد المرسلين، صلى الله عليه وآله وسلم، وتشمئز منه الأفئدة السليمة التي تحمل في طياتها الرحمة للمخالف، ورغبة هدايته، والحرص على إنقاذه، لا الحقد عليه، وتمني هلاكه، والفرح بمصابه، وتستنكره الألسنة والأقلام التي تسعى للمّ شمل الأمة، وتأليف قلوبها، ورص صفوفها، ورد كيد عدوها. لم يكن حادثاً متوقعًا نظرًا لما يعيشه أهل الأحساء من التآخي والتعايش والتراحم والتعاطف والتجاور والتزاور والتصاهر، على اختلاف انتماءاتهم ومذاهبهم. هو فعل منكر في الأحساء وفي غيرها من أي بقعة من مملكتنا الحبيبة، وبلادنا المحروسة، تنكره قلوب الشعب المؤمن، المقتفي أثر السلف بكل واقعية، وصدق، رحب الصدر، متسع المدارك، بعيد النظر، يتمسك بسماحة دينه، ويحب العيش الآمن له ولغيره من المسلمين، بل يحب الأمن لكل الإنسانية، ويعرف خطر العدوان حتى على الحيوان، ويعرف عتاب ربه لنبي من أنبيائه أحرق واد للنمل بعد أن قرصته نملة، فعوتب على فعله والمجني عليه نمل، مجرد نمل، لا آدمي خلق ليعبد الله ويذكره، ويمجده ويقدس له. وإن كنت أعلم أن الشعب الأبي يرفض ذلك ويستنكره، ويقف مواجها له إلا أني لا أنفي أن هناك طرفاً آخر، وأيادي خفية لا يروق لها أن نبقى في أمن وأمان، غيبت عقولها بفهم مستقطع لبعض النصوص، فاتكأت على ذلك الفهم، وأرادت أطر الناس عليه، فعملت ليلاً ونهارًا تسعى في زرع الفتنة في هذا البلد الأمين، بأجندةٍ تختلقها، أو بتجنيد قليلي العقول وضعيفي الأنفس من بني جلدتنا، ومع كون شعب المملكة على وجه العموم والأحسائيين على وجه الخصوص لا يفتقرون إلى كثير من شرح ونقل كيف تعايش المسلمون قديمًا على اختلاف مشاربهم، لما منّ الله به علينا من كثرة العلماء والمشايخ، وسلامة وحرص المنهج التعليمي على تنشئة جيل يمد في الحضارة باعه، غير أن التقصير حاصل من كثير ممن تولى توجيه وإرشاد العامة سواءً من قبل الإعلام المتمثل بالقنوات الفضائية أو مواقع التواصل أو أو .. الخ، أو من قبل منابر الطرح العلمي الوعظي الذي واجهته منبر المسجد ونحوه . فلتكن منا ومن مشايخنا وعلمائنا وإعلامنا خطوة راسخة للقضاء على الأفكار المنحرفة والعنف الفكري الإقصائي، وبث ثقافة قبول الرأي الآخر ومعالجة الخطأ منه بالحكمة والموعظة الحسنة والجهاد بالتي هي أحسن، حتى وإن لم يكن لحادثة الأحساء أبعاد طائفية، حتى لا نترك ذريعة بينة لأعداءِ أمننا للعبث به ضاربين على وتر هذا التقصير. وهذا أوان معالجة هذا التقصير ونقل الصورة الحقيقية لا الادعائية للسلف الصالح الذين سطروا أروع الأمثلة في قبول الآخر، ومعالجة الفكر بالفكر، والأذى بالصبر، وانتقاء النافع من الكلام، وأخذ الحق ممن جاء به. إن من يقرأ صحيح البخاري ويدعي انتماءه لمنهجه ومنهج من هو مثله وطريقتهم في الاتباع، وأسلوبهم في التجرد عند مناقشة فكر الآخر، لا ينبغي أن يشرد عن باله الواقع العملي الذي كان ينتهجه البخاري وغيره رحمهم الله، فلو أنا ألقينا نظرة فيمن أخذ عنهم البخاري لوجدنا من مشايخه من يخالفونه مخالفة جذرية في المشرب، ومع ذلك بث عنهم علماً من أشرف العلوم ؛ علم الرواية والإسناد، ومن مشايخ البخاري وغيره من قيل فيهم : كان متشيعًا مفرطا. ولا حصر لمن ثبت عنهم اختلاف الفكر والرأي اختلافًا بيناً، ومع ذلك أخذ عنهم ما به نفع للأمة، بل من قرأ تراجمه وتبويباته سيرى عجبا من سعة الأفق في المخالفة. ولا مجال لسرد تفاصيل ذلك التعايش والتأقلم الأخلاقي بين طوائف المسلمين، فيكفي في ذلك مجرد المرور على مشايخ وطلبة علماء السلف الصالح لنجد حقيقة الفرق بين العمل بما يكفل حقوق المسلم وبين الادعاء القائم على مخالفة القول للفعل، وليس الأمر مجرد إشارة ناتجة عن حدث معين وإنما ينبغي أن يكون منهجاً واسعاً مدروساً ومدرَّسا بين شرائح المجتمع، فالإسلام قد علمنا كيف نتعايش مع من هو خارج الإسلام أصلاً، في رد تحيته والبيع والشراء معه ومجاورته ووو .. الخ ! فكيف بالمسلم الذي اختلفنا معه في الرأي، وإن تفاقم هذا الاختلاف وعظم، فينبغي أن نكون أكثر حصافة في إيجاد سبل التأقلم والتعايش والتآخي بما يكفل استمرار وازدياد نعمة الأمن والأمان التي منّ الله بها علينا وزادنا فيها فضلةً على العالمين "ويتخطف الناس من حولهم"، "وآمنهم من خوف"، "ومن دخله كان آمنا". فهلا استشعرنا هذه النعمة العظيمة التي يعجز عن شكرها الشاكر، لنعلم أن قرارها شكرها، والشكر باليد والقلب واللسان، فباليد نتصافح ونتسامح ونتآخى، وبالقلب ننكر ما نراه منكرا، ونعذر ونرحم، ونحرص على هداية المخالف، وباللسان ينصف بعضنا بعضاً، وينصح بعضنا بعضاً فيما اختلفت فيه الأقوال، وتباينت الأفكار، وتعارضت الآراء، بذلك نكون قد استوفينا مخارج الشكر، وقطعنا دابر الفتنة، وأغلقنا باب الاقتتال والتشرذم . أفادتكم النعماء مني ثلاثة يدي ولساني والضمير المحجبا وإنا قد نختلف وقد يصدر بعضنا على بعض الأحكام التي يراها تقربه إلى الله ولكن ذلك لا يعني أن يحقد بعضنا على بعض، ولا أن نستبيح دماء بعضنا بعضاً، وإن حدث شيء من هذا فإننا نعلم أن منشأه الإجرام، ونزغات النفس الخبيثة، ونتائج طائفية مقيتة، فنحن ولله الحمد يشهد لأخوتنا وتراحمنا عدونا قبل صديقنا، وحبيبنا وأخينا.