أول ما يتبادر إلى ذهني - وأنا أفكر في (المواطنة) - صورةُ أسرةٍ هانئةٍ هادئة، سعيدة متحابة، متعاونة متكاتفة.. أفرادها متفاهمون، نشيطون، كل واحد منهم يعرف واجبه ويقوم به ويزيد عليه أحياناً، ويعرف حقوقه فيطالب بها ويتسامح عنها أحياناً! ** ** ** وأتساءل : هل تستقيم الحياة في بيت لا يشترك الجميع في حمل مسؤولياته، ولا يتعاونون على تنظيفه، وترتيبه، وصيانته، وحراسته، وتجميله، وتحسينه، بل ويحملون لكل زاوية من زواياه معزّة خاصة لما ارتبط بها من ذكريات ؟! وفي المقابل فإن على شركاء الفرد في البيت ألاّ يهضموا شيئاً من حقه الذي هو واجب عليهم نحوه - كما أن لكل واحد منهم الحقوق نفسها على الآخرين معه - فلا يشعر أحد من الجميع بالضيم لشيء من حقوقه حرم إياه مع أن الآخرين يتمتعون به. ** ** ** لا أظنها تستقيم، وكذلك الحال في الوطن .. فما لم يكن أبناء المجتمع وبناته أسرة واحدة، يشعرون بالانتماء الصادق إلى وطنهم، ويغارون على أرضه وعرضه، وإنجازاته ومكتسباته، وخيراته وثرواته، ويتعاملون معها كما يتعامل الفرد في الأسرة مع ما يضمه بيته من متاع وأثاث، وكتب، ومقتنيات، ويحرسونها (من الداخل) فلا تكسر أو تتلف، (ومن الخارج) فلا تسرق أو تمتهن - ما لم يكونوا كذلك فإن الحال لن تستقيم في ذلك الوطن، وسيكون عرضة لأمراض داخلية وأخطار خارجية. هذه حال أي مجتمع مع أي وطن، فكيف إذا كان المجتمع عربياً مسلماً، والوطن يتشرف باحتضان أغلى البقاع وأطهرها: المسجدين المشرّفين، والمشاعر المقدسة ؟ ** ** ** وهنا يحسن إلقاء الأضواء على التربية، ثم على المواطنة، لاكتشاف عناصرهما الأساسية، والملامح المميزة لكل منهما، لنحاول بعد ذلك أن نتبين العلاقة الواشجة بينهما، وعلى الأصح، نتبين كيف تؤثر التربية في المواطنة : تغرس بذورها، وتتعهدها بالرعاية والسقيا، ليجني المجتمع منها أطيب الثمرات، وكيف تؤثر المواطنة في التربية : بتحديد قيمها وأهدافها التي تسعى إلى تحقيقها. فأما عناصر التربية في الأصول اللغوية لكلمة تربية ومن استقراء عدد من التعريفات لهذه الكلمة، يمكن القول : إن التربية تتكون من أربعة عناصر : - المحافظة على فطرة الناشىء ورعايتها. - تنمية مواهبه واستعداداته كلها. - توجيه هذه الفطرة والمواهب نحو صلاحها وكمالها اللائق بها. - التدرج في هذه العمليات كلّها. وللتربية أسس عديدة أهمها ثلاثة وهي : الأساس الفكري، والأساس الاجتماعي، والأساس النفسي . ** ** ** فأما الأساس الفكري فتلخّصه القاعدة المشهورة : (السلوك فرع عن التصور)، فلكل تصرف أساس فكري، والعمل نابع من الفكرة، ولكل نظام عملي أساس نظري، ولذا فإنه ما من تربية إلا ولها أساس ترتكز عليه، فالتربية في المنهج الإسلامي أساسها مختلف عن التربية في النظام الرأسمالي، أو الاشتراكي، أو العلماني. ** ** ** وأما الأساس الاجتماعي فالعلاقة وثيقة بين التربية والمجتمع، فلا تربية بدون مجتمع ولا مجتمع بدون تربية، والتربية نفسها وليدة الحياة الاجتماعية، وهي - في الوقت نفسه - أداة بيد الجماعة تحقق أغراضها في البقاء والنماء والتقدم. ** ** ** وعلى مؤسسات التربية مهمة تحسين أوضاع المجتمع الحالية والمستقبلية، وإصلاحه والرقي المستمر به، وتنقيته من الأفكار الخاطئة والأوضاع المنحرفة ؛ فإذا كان المجتمع - مثلاً - ينظر نظرة دونية إلى(عمل ما) فمن واجب مؤسسة التربية أن تصلح هذا الخطأ عن طريق التوعية، وتكريم المتفوقين في هذا (العمل)، ويمكن أن تعتمد على الأدلة الشرعية كقوله - عليه الصلاة والسلام - (ما بعث الله نبياً إلا رعى الغنم)، ولا يخفى ما في هذا من أثر بالغ في إعداد المواطن الصالح. ** ** ** ومن أكبر المهام التي تضطلع بها مؤسسات التربية إيجاد (التوافق الاجتماعي) بين أفراد المجتمع وشرائحه المختلفة، وتدعيم هذا التوافق واستمراره على أفضل الوجوه، والتوافق لا يعني بالضرورة (التطابق)، بل يعني أن يتحرك أفراد المجتمع بانسجام ضمن إطار من التفاهم المشترك، والاحترام المتبادل، أي تحقيق مبدأ : الوحدة من خلال التنوع، وهذا بالتأكيد لا يعني أن يتطابق الجميع في نظرتهم للأمور وإنما يجمعهم الحرص على سلامة الوطن، ورعايته، وعدم الاحتراب فيما بينهم بسبب اختلافاتهم الفكرية أو المذهبية، ولذلك فإن هناك مقولة عالمية تتكرر دائماً مفادها (الاتحاد من خلال التنوع). وسأواصل الحديث في الأسبوع القادم عن هذا الموضوع الذي أرى أنه بالغ الأهمية وخاصة في تلك الظروف المحيطة بكثير من أجزاء الوطن العربي. ** ** ** وفقنا الله جميعًا إلى الخير والصواب والأخذ بأسباب القوة مهما غلا ثمنها، اللهم اجعل صدورنا سليمة معافاة، وأَمِدّنا يا ربنا بتأييد من عندك وتسديد..