تشير الإحصائيات على مر الحقب الزمنية بأننا سنأتي بجديد يرفع من شأن هذا الكائن البائس الذي يقف على منصة الشهود تارة وتارة أخرى في قفص الاتهام . والحرص الذي يمارسه الباحثون عليه وضعه في دور العاجز الذي تدور حوله حقيقة الخديعة والمؤامرة المتحولة لرصيده التي يحيكها العالم بحضرته لكي يعيش بعيداً عن التوهج المشتعل طويلاً، ويثبت أنه فوق التوقعات والبرهنة ثم يتعاطى مع الأحداث الراهنة بسخرية وطرافة، وكأن العصر اختلس عمراً إضافياً له ليبقى بلا زمن. وفي هذا السياق تجدر بنا الإشارة إلى حجم التطورات الأخيرة التي كشفت لنا تدهور طاقم الأفكار التي يحملها رأس الفرد العربي، وكيف وصل به الحال إلى معنى العزة والفخر الذي يخبرك بأن هناك رواية طويلة لن تنتهي مع التخلف والخضوع لكبرياء البيت الأسود الذي يشبه اللعبة في مربعات شطرنج. بدأ من قصة النفط والاستهلاك إلى سماعة المخدرات الرقمية، هذا الواقع الذي نعيشه من أحداث كبرى تتماهى داخل أخرى تافهة، فالنفط كمصدر ضخم اعتمدنا عليه طويلاً للدخل تتحول الأحاديث عنه إلى قصة يتداولها المراهقون عن الإدمان الرقمي، إن بداية تحرير الفضاء المتعالي الذي عبر عن العجز الفكري بين مفهومه لذاته وللآخر وللواقع فالمحاور الثلاثة هذه كما يدعوها "فوكو" غائبة عن الذهن العملي، فهو يتصرف مع الذات كأنها صفر ولا وجود للآخر، والواقع ليس إلا خروجاً من الماضي. ففي كل مرة يقدم الإعلام تقريراً عن انفجار مفاجئ للأخبار، يرافقه أخبار طريفة تتداول إلى أن تتخذ أهمية أكبر من الأخبار الرئيسية والمصيرية، فطالما الإنسان العربي يستمد قوته من الجماعة فذاته غائبة بغيابها، وحاضره جزئياً بوجودها، فإذا فشلت هذه الجماعة في طرح واقع جديد فلابد له أن ينتظر حُلمها الجديد، وبزوغها القادم، وإلا فإنه في حالة استحضار تذهب به لمحاولات يائسة بتغيير الواقع الذي يستعر عنفاً. فلن تستطيع العقول الوصول إلى حقيقة العالم إلا بالتدرج من الأدنى إلى الأعلى وليس العكس كما يفعل الإنسان العربي فهو غالباً ما يكون فرداً لا يشكل قيمة فكرية أو جسدية أو مادية إلا بمباركة الجماعة، ولا زال متوارياً خلف النصوص والكيانات، ولا عجب أن طمس الجانب المشرق في فكره من أجل أن يعيش في كنف المنظومة يؤدي المهام دون ضرائب . فمن المؤسف أن تكشف عن حالك في خضم صراع بين الاتجاهات المتعارضة في الداخل والخارج، وتبتعد شيئاً فشيئاً عن التطورات الراهنة والنظريات العقلانية سواء بشكلها الأفلاطوني القديم أو بشكلها الديكارتي الحديث، ثم تتخذ أوضاعاً مختلفة لكي تصنع حياة أخرى أكثر سوءاً. يقول علي حرب: نحن بوصفنا كائنات اجتماعية علينا طي المراحل السابقة لتعثر مشاريع التحديث والعقلنة فيها والتنمية في العالم العربي. ثم استطرد قوله والأهم من هذا كله، فمن يحيا عصره ويفكر فيما يحدث، هو الذي يطوي مراحله ويستجمع أطواره، ويكثف أزمنته.