حتى الأسى يمكن أن يكون تافهاً ورخيصاً. في رواية زوربا، نيكولاس كازنتزاكس، التي أصبحت فيلماً من أعظم ما أنتجته السينما في العالم، بالاسم نفسه، وأدى دوره العجوز الرائع "انتوني كوين".. وبأحد المواضع كان المهندس، ببدلته الأنيقة، وشَعَره المُسرّح على الموضة، وخدّيه الطريّتين، القادم من رفاه المدن، من بيوت العوائل الميسورة، وقهوات الإفطار، وحلويات الشوارع الناعمة، حيث حدائق الألعاب والجامعات والأكياس تملأ أيدي المارة تحت البنايات الكبيرة.. كان يشتكي مرةً من حياته لزوربا. حين انتهى نظر الأخير إلى الأرض ثم بصق، وقال "ما الذي تعرفونه أنتم عن الآلام!".. يحدث وأنت تتجول في مواقع النت، فترى كمًّا هائلاً من كلام الأسى التافه، تفكر للحظة ما كل هؤلاء الحزانى ومكسوري القلب! تقرأ مرة ومئة مرة، فلا تجد غير عذاباتٍ هشّة؛ هذه تركت ذاك، وهذا أدار ظهره لتلك، وصوراً وكلاماً مضحكاً عن الفراق والغياب. تقرأ فتتذكر أن أحداً قبل مدّة فَقَد صغاره الخمسة أمام عينيه. تود لو تبصق أيضاً مثل زوربا وأنت تتساءل؛ هل يعرف ذوو الأسى التافه شيئاً عن غيابٍ كهذا؟! أن لا يكون للمرء تجربة ولا عراك، أن تكون الحياة لم تهرس قلبه المرة تلو الأخرى، فسيغرق في هذا السخف الشائع. السخف الذي وجد في تطبيقات آبل وأندرويد عالماً بالغ الليونة والترف، فانفلت كل هذا الهراء السمج، وأنتج هذه الرداءة في الاهتمام والهدف، في الطموح وخوض الحياة، في تحصيل شيءٍ جاد، رداءة في الفكرة عن الذات والعالم، وسفاهة كبيرة في الكتابة، تتصدر الضجيج. شيء يشبه أن تجد الذين يدونون المواعظ الفارغة، وأصحاب نكات الحشيش، ومقاطع الجنس، الرومانسيات.. يُتابعون بعشرات ومئات الآلاف، وبعضهم بالملايين. ذوو الأسى التافه لم يقرؤوا، مثلاً، آلاء السوسي، وهي تكتب هكذا، في مقالة مريرة، اسمها "الحرب الأولى: حرب الأسئلة".. أنقل منها؛ "حين بدأ الإسرائيليون بسياسة تهديد المنازل، عن طريق إنذارها بمكالمةٍ هاتفية، ومنحها خمس دقائق لإخلاء المنزل، كانت جدتي المريضة، كبيرة السن، تسألنا إن كنا سننتظرها، بمشيتها البطيئة المتعثرة، حتى تخرج إن هددوا منزلنا، أو إن كان أحدنا سيغامر بحياته من أجل حملها والخروج بها. كلتا العمليتين تتطلبان أكثر من خمس دقائق... حين وجدت صعوبةً في الإجابة عن سؤالها، وأنا أواجه نفسي، أُصبت بالخوف من ذاتي، وبالشك في المعنى المثالي للأخلاق، وإن كانت الفكرة الأخلاقية ممكنة أصلاً!" ضع هذه الفتاة وكتابتها وهمّها وتساؤلها في نقطة، وضع المشغولين بتفاهاتهم الصغيرة في نقطة.. ثم احسب المسافة، وابصق!