نتائج الانتخابات التشريعية التي جرت أخيراً في تونس تعطي بعض المؤشرات الإيجابية الباعثة على الأمل في ما يسمى «الربيع العربي»، ولتونس أهمية رمزية وتاريخية في هذه المسيرة، فمنها انطلقت شرارة «الربيع العربي» في بعض الدول العربية، ولكن التجربة التونسية تختلف إلى درجة كبيرة عن التجارب العربية الأخرى، فهي الأقل دمويةً وعنفاً، مقارنة بما يحدث في مصر وسورية واليمن وليبيا، والأخيرة وعلى رغم القرب الجغرافي من تونس إلا أنها تعيش حالاً صعبة مهددة وحدة وتقسيم ليبيا على أساس جهوي وقبلي واضحين، إضافة إلى العنف المسلح بين الجيش الوطني وبين مليشيات قوى الإسلام السياسي المدعومة من بعض القوى العربية والإقليمية، ولكن ما أحدث هذا البيئة الهشة في ليبيا هو نظام القذافي فلا هو أسس جيشاً وطنياً قادراً على التدخل في حال الأزمات وقضى على محاولة لوجود منظمات مجتمع مدني، وبخاصة الأحزاب، حتى لو كانت ذات صبغة شكلية، وقد انشغل القذافي في ترهات الزعامة عربياً وأفريقياً وعالمياً، ولكن النتائج كانت كارثية على ليبيا، وكلنا يتذكر العداء الواضح بين الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة أول زعيم لتونس بعد الاستقلال والتحرر من الاستعمار الفرنسي وبين معمر القذافي التي وصلت في بعض مظاهر الصراع بينهما إلى الصراع المسلح بين البلدين، القذافي كان يدعو إلى وحدة عربية بشكل دعائي فج وغير واقعي، في المقابل كان بورقيبة ليس فقط زعيماً سياسياً، بل كان أقرب إلى المفكر الاجتماعي الذي كان يرى أن الإنسان العربي وفي هذه الحال من التخلف وبكل إشكاله لا يمكن أن نتحدث عن وحدة عربية. في الداخل التونسي أسس لمرحلة تحديث على المستويات الثقافية والاجتماعية وكان مؤمناً بالدولة العلمانية ومناهضاً بشدة للحركات الإسلام السياسي، وبخاصة لحركة النهضة التونسية التي تعرض مؤيدوها للسجن والعيش في المنافي، قد نتفق أو نختلف مع شمولية بورقيبة في هذا المنحى السياسي، ولكن حتى القوى اليسارية لم تكن حالها أفضل من مثيلاتها الإسلاموية، ولكن في تونس كان توجد -ولا تزال- اتحادات الشغل والنقابات العمالية التي كان لها دور واضح في مسيرة الثورة التونسية، ولكنها لم تنخرط في العمل السياسي بعد الثورة. المتابع للانتخابات التونسية الأخيرة شهد مناظرات متلفزة للقوى السياسية التونسية المتنافسة ويلحظ مستوى رفيعاً من الرقي والعقلانية في تلك المناظرات، وهو ما يدل على أن المجتمع التونسي متطور على مستوى الفكر السياسي والاجتماعي، وهذه باعتقادي نتائج المرحلة البورقيبية، عكس ما يحدث في دول «الربيع العربي» من صراعات وتخوين وقتل، تعطي دلالات على التخلف الاجتماعي والفكري لبعض تلك الشعوب العربية، أن ما حدث لحركة النهضة من فقد سيطرتها في الانتخابات الأخيرة وتقدم للأحزاب ذات التوجه العلماني يعطي دلالة أن الخطاب الوعظي للحركة الذي أوصلها إلى سدة الحكم في 2011 لم يكن كافياً لنجاحها واستمرارها في إدارة البلاد، إذ فشلت في حل القضايا والأزمات الاقتصادية والاجتماعية على رغم قواعدها وتنظيمها الجيد، مقارنة بالقوى السياسية الأخرى، ولكن هذا لم يشفع لها بالفوز بالانتخابات الأخيرة، وهو ما يؤكد بوضوح واقعية ونضج وعي الناخب التونسي الذي أسس له الرئيس بورقيبة في بناء دولة التحديث الاجتماعي، وكلنا يلحظ ما حققته المرأة التونسية من حضور ومكاسب أسست لها المرحلة البورقيبية، التي تمثلت في إصدار المدونة الأسرية وأعطت المرأة هناك حقوقاً متقدمة، مقارنة بمثيلاتها في الدول العربية الأخرى، سواء آتفقنا أم اختلفنا معها، ولكن النظرة الاستشرافية للحبيب بورقيبة يجني الشعب التونسي ثمارها الآن، وتجنب تونس الكثير من المخاطر التي تعيشها دول «الربيع العربي». إن تداول السلطة سلمياً والذي عاشته تونس يبعث الأمل ليس لأن حركة النهضة فقدت مركزها المتقدم في المشهد التونسي، بل لأن الشعب التونسي لم يعد ينخدع بالخطاب العاطفي لحركات الإسلام السياسي، فها هي حركة النهضة وصلت إلى إدارة البلاد ولم تقدم أو تفي بما طرحته في برامجها الانتخابية. نقطة أخيرة في المشهد التونسي قد يكون لها تأثير إيجابي في ما تعيشه من تطور إيجابي أنها لم تعمل بقوانين اجتثاث لمن كانوا محسوبين على الأنظمة السابقة التي طُبقت في بعض دول «الربيع العربي»، وكانت لها نتائج كارثية على تلك الدول. akalalaka@