×
محافظة المنطقة الشرقية

ستامب يستعين بالمحياني لغياب هزازي

صورة الخبر

الواقع السوري، لنقل منذ سنة على الأقل، بات سهل التوصيف. ففي مساحة كبيرة حافلة بالتعقيدات، وحتى التناقضات، تتضاءل نسبة الخطأ في التوصيف، ويسهل العثور على وقائع تُثبت صحته. ذلك لا ينفي وجود وقائع أخرى في مكان مجاور أو لصيق تُثبت خطأه أيضاً. لذا، لن يكون صعباً استنطاق الواقع المجتزأ، وتقويله ما يقوله حقاً واعتباره جوهراً ثابتاً له، ولن يكون صعباً أيضاً استنطاقه قبل حيث يُفترض أن طبيعته كانت مغايرة لما هي عليه الآن واعتباره آنذاك معياراً ثابتاً. ثم، إننا على الأرجح، نستطيع المضي في هذا النوع من المقاربة، حيث تدحض كل عبارة ما قبلها، إلى ما لا نهاية، تحت زعم النسبية وانعدام الحقيقة. في مقالها «بحثاً عن أيديولوجيا سياسية تسد ذلك الخواء: ليس بالمال والسلاح وحدهما تهزم داعش»، الحياة 25/10/2014، تذهب بيسان الشيخ مذهباً أكثر بساطة، لتناقش وتفنّد مقولات تبسيطية أطلقها ويطلقها سوريون منخرطون في مناقشة الوضع السوري، وأحياناً بمشاركة حثيثة من مثقفين لبنانيين وعرب آخرين واكبوا مجرياتها منذ اندلاع الثورة. غير أن مشكلة مناقشة تلك المقولات المختزلة، والتبسيطية في آن، تكمن في صفة التعميم التي تحظى بها، على عكس ما يُفترض أن تذهب إليه مقالة بيسان الشيخ المذكورة. في الواقع، ثمة خطأ مركزي يكتنف المقولات والنقاش حولها، يبدأ من تصنيف كل ما حدث منذ 15 آذار (مارس) 2011 بالثورة، مع أن العديد من المثقفين السوريين يرى الثورة كواقعة حدثت في مستهل هذا التاريخ، ثم تراكبت معها ظروف إقليمية ودولية جعلت الحرب العنوان الأبرز لما يحدث على الأرض. فضلاً عن أن واقعة نزوح نصف سكان سورية من مناطق الاشتباك تجرد الأخيرة من إمكانيات الفعل المدني والسياسي المأمول، وتمنح الغلبة للأقوى ميدانياً، بما في ذلك الأقوى بفعل الدعم الخارجي، الأمر الذي ينطبق على الميليشيات المتحالفة مع النظام ونظيرتها في المقلب الآخر. انطلاقاً من قراءتها لصمود كوباني، تفترض بيسان الشيخ أن وجود عصبية ما قد يكون العامل الأقوى في المعركة، ولا يكفي المال والسلاح وحدهما، بالمقارنة مع السقوط السريع للموصل والرقة. هذه الخلاصة التي تبدو واقعية جداً ينقصها القول بأن داعش سيطر بسرعة كبيرة على قرى كوباني، واحتل حوالى نصف المدينة، قبل بدء إنزال المساعدات الدولية من طائرات التحالف، ويبقى في «علم الغيب» ما سيكون عليه الحال لو لم يحدث ذلك. أيضاً، ينتقص من هذه الخلاصة أن مدينة مثل داريا لا تزال صامدة تحت النار والحصار منذ ما يقارب السنتين، ومن دون أن ينسب مقاتلوها لأنفسهم عصبية معلنة على غرار العصبية الكردية. لكي لا نتسرع في الاستنتاج، هذا لا يعني قابلية المدن «العربية» السورية للسقوط أمام داعش بأسهل من سقوطها أمام قوات النظام. في مدينة حلب وريفها مثلاً كانت هناك جولات من الكر والفر بين داعش وفصائل أخرى محلية؛ في المدينة تحديداً حيث نزح أغلب السكان لم يكن الأمر يتعلق بحاضنة شعبية لتلك الفصائل أو لداعش، ولعل هذا ينطبق أيضاً على سكان الريف الذين نزح معظمهم إلى هناك بحثاً عن الأمان الشخصي. في مقاتلة القاعدة في العراق، لنتذكر، لم تجد القوات الأميركية من قبل سوى الصحوات العشائرية، وتحاول الآن إعادة الحياة إلى ذلك الخيار. الصحوات العشائرية خيار غير مجدٍ في سورية، بسبب تهلهل حال العشائر عموماً، وما تبقى من سلطات شيوخها المعنوية كان إلى أمد قريب برعاية وإنعاش النظام، أي أن الحال العشائري هو حال مقترن بالسلطة «أية سلطة» لفقر حيثيته الشعبية. العامل الأهم، الذي لا ينبغي إنكاره، أن مسببات عدة أنعشت عصبية وحيدة طاغية في الساحة السورية هي العصبية الطائفية، وهي بالتعريف لا تزال عصبية حرب أكثر منها طائفية سياسية مستدامة، أيضاً لانعدام الظروف التي تسمح بامتحانها أو انتظامها ضمن حراك سياسي مدني. أما العصبية القومية، التي يبدو أنها تلعب دوراً إيجابياً في الساحة الكردية، فهي في طور الانقراض على المستوى السوري العام. أهل الثورة انتفض قسم كبير منهم أصلاً على الضد من أيديولوجيا البعث، وكانت الشعارات الأولى شعارات وطنية خالصة، على النحو الذي حدث في بلدان الربيع العربي عموماً. أهل النظام اعتصموا بفينيقية جرى بعثها على عجل، رداً على ما اعتبروه تحيزاً عربياً «سنياً» للمعارضة، بينما كفر بعض المعارضين بعروبة استجدى تدخلها لإنقاذ «قلبها» السوري، فلم تفعل على النحو الذي كان مأمولاً منها. إذاً، الكفر بالعروبة صار سمة عامة لدى طرفي الصراع، من دون أن يقرّب ذلك بينهما. هناك فشل كبير أدركه السوريون منذ بدء الحرب الشرسة عليهم، تجلى ذلك في تسمية أيام الجُمع عندما كان الرصاص يزخ على المتظاهرين. فبعد ستة أشهر من الثورة كانت تسمية جمعة 9 أيلول (سبتمبر) 2011 جمعة «الحماية الدولية»، تلتها في 28 تشرين الأول (أكتوبر) 2011 جمعة «الحظر الجوي». قبل استجداء الخارج كانت تسميات الجُمع تتراوح بين بث الروح المعنوية واستجداء الجيش والطوائف التي غلبت على بعضها الموالاة للمشاركة في الثورة. بمعنى آخر، كان طلب الحماية الدولية تعبيراً عن اليأس من الشركاء في الوطن، وتعبيراً عن تحطم الشعارات الأولى على صخور الواقع، لتأتي في ما بعد الميليشيات الطائفية المساندة للنظام وتشارك في الإجهاز على أي تصور للمسألة الوطنية. المفارقة، أن العصبية التي تطلبها مقالة بيسان الشيخ بعيدة المنال، تماماً بالقدر الذي تبدو فيه خلف السوريين وليست أمامهم! وسيكون من حسن ظنها أن تمنح مثقفي سورية مقدرة، وتقصيراً ملازماً لها، على اجتراح عصبية جامعة بعد فشل مطالباتهم الأساس بدولة مواطنة متساوية. لكن، حتى الدولة الوطنية، أو الدولة/الأمة، لم تعد بالعصبية المقترحة أو القادرة على لمّ شتات السوريين حالياً، فضلاً عن تفويتها كخيار تاريخي في مرحلة الاستقلال الأولى. أغلب الظن، إذا انتهت الحرب، سيكون السوريون أمام نسبة كبيرة مما قبل الدولة وقليل مما بعدها، هذا إن بقي لهم مستقبل مشترك.