عبدالله النغيمشي التطرف والغلو، مفاهيم اعتاد اللاوعي على إحالتها إلى جهة محددة، من دون أي تردد أو فرز أو عدل، بحيث يتجه اللاوعي تلقائياً إلى الدينيين، إذ ارتبط التطرف بالدين، فلا يعد غير الديني متطرفاً غالياً مهما كان كذلك، صحيح أن مجتماعاتنا تعاني من تطرف العقائديين، كما هي عانت من ويلاتهم وخطاياهم، خاصة أن غلو وتطرف الغلاة الدينيين تعبدي، ويراد به وجه الله، بوصف الممارسات التي يقومون بها حماية لجناب الدين وجهاد في سبيل الله، لكن لو نظرنا إلى الآيديولوجيات التي ينطلق منها عامة المؤدلجين (الدينيون والمدنيون) لوجدناها تتماهى في إنتاج التعاطي الإقصائي والمتطرف. في وسطنا الثقافي لا أكاد أن أجد كمية تباين بين التوجهات أو التيارات من حيث اللغة والقيم والأخلاقيات في الحوار والطروحات، ذلك أن الأضداد ثقافياً، الدينيون والمدنيون (المدنيون وصف مجازي لا حقيقي في ثقافتنا) ينطلقون من ذاتية واحدة تتخذ الشمولية والإطلاقية القاطعية مورداً لها، من الطبيعي أن تكون الأرهط الدينية شمولية يقينية بحكم أنها تحتكم في لاوعيها إلى محرض ديني، لا يتسامح مع المختلف كطبيعة عميقة في العقائديات، لكن من غير الطبيعي السوي أن تتماهى التيارات التي تنتسب للمكون المدني (الليبرالية، التنويرية، العقلانية) مع الأصوليات الدينية في الشمولية التي تؤسس للتطرف وتجذر للإقصاء والشوفينية. ينحسر الفرق في بيئتنا بين الدينيين والمدنيين (الليبراليين، التنويريين) في عدم احترام الحريات وقيم الحوار والتعايش لمرحلة التماهي، في بيئتنا الثقافية تحولت الليبرالية إلى عقيدة وآيديولوجيا متطرفة، كما هي فقدت قيمتها كمنظومة أفكار أخلاقية نسبية، لا تعتنق آيديولوجياً، وإنما نظام قيم وأخلاق تعددي حرياتي، أصبح فئام ممن ينتسب للتنوير أو الليبرالية يتفهمون الانفتاح أو الليبرالية والتنوير على أنها نقيض لكل ما هو ديني، وذلك ما تشهده الساحة الثقافية من تطاحن بين الإسلامويين والليبرالويين، كما لو كانت الليبرالية مذهباً دينياً، لمرحلة أن يتم توظيف ذات الأدوات الإسلاموية من قبل الليبرالويين، وتحول اهتمام الليبرالوي من (التأثير الإيجابي والتبشير بقيم التسامح والتعايش واحترام الآخر وتدشين الوعي بقيم الحرية) إلى التوجه ناحية مناكفة كل ما هو ديني، بدعوى الرجعية والماضوية، وأن كل تراثنا بعامته يتحتم إحراقه، أنا أؤكد على أن تراثنا بحاجة لمراجعة ومعالجة، لكن لا يعني نسفه وتسفيهه برمته، لكن التأزم الذي يحدث مع الفكر الليبرالوي الجديد عدم القدرة على فرز الديني الأصيل عن الدخيل، كما لا يمتلك هذا الفكر الفرز بين أطياف الدينيين ويعتبرهم أيقونة واحدة. لا يختلف عامة المنتمين للتيار الليبرالي عن الإسلاميين في عامة القيم المدنية والأخلاقية، كما لا يوجد ثمة تباين من ناحية ماهية الآخر وحقوقه، ذلك أن هذه الليبرالية أصبحت أشد تطرفاً من الدينيين، إذ يتم توظيف القيمة الليبرالية بخلاف ما تدعو إليه الليبرالية. الليبرالية الحقيقية تعتبر أعظم مشروع تكافلي وصلت إليه الإنسانية، لضمانة التعايش بين الأضداد ثقافياً ودينياً وعرقياً، كما هي لا تزال الخيار الأفضل في خلق إمكان التعايش داخل أي وسط إنساني، مهما كان وسطاً إثنياً أومللياً، لقدرة الليبرالية على صناعة مسافة عقلانية وإنسانية بين طيوف المجتمع، ذلك أن عمق وصوتيم الليبرالية تقديس الحريات واحترام رأي وإيمان المختلف، والفصل بين الإنسان وعقيدته الخاصة والإنسان وحياته العامة، إضافة لقدرتها على خلق بيئة تعايش تكفل حقوق الجميع وحرياتهم. التأزم في ليبراليتنا أنها تقع في قطيعة ما بين النظرية والفعل، إضافة إلى تحولها إلى ليبرالية عضوية براغماتية، المتابع لوسطنا الثقافي حال بحثه عن ليبرالية أو ممارسات ليبرالية أو ليبراليين فإنه سيواجه صعوبة في القبض على شيء منها، ذلك أنه لن يجد ليبرالية حقه، ولا ممارسات وقيم ليبرالية (وندرة ممن يتنزل عليهم وصفية ليبرالي حقيقي). هل لدى الليبرالي السعودي مشروع غير منازلة الدينيين والدين؟ لا يجد عامة الليبراليين السعوديين ذاتهم إلا داخل ساحات الاحتراب مع الديني والدين، بل لا معنى لليبرالية في اللاوعي الليبرالي غير الانتظام في خصومات وعورات وخطايا الدينيين، كما لو كانت الليبرالية خصم تاريخي آيديولوجي للدين، في حين أن الليبرالية بعيدة عن ذلك، بل مباينة لتلك الفهوم. الليبرالية تجلّ الدين وتسمح له بالتمدد والحرية، تحت مشروطية الحرية المتبادلة، ما بين الديني والديني الآخر والديني والمدني، حتى يكون المهيمن على الوعي والمجتمع والدولة الاحترام المتبادل، وسيادة القانون والنظام العام، لكن ذلك مالا تعيه الليبرالية البراغماتية (الأصولية) المحلية؟ حينما تبحث عن دور ومشاركات وتأثير الليبرالية المحلية اجتماعياً وسياسياً وثقافياً، فغالباً لا تجد لها ذلك الحضور، مع أن دور الليبرالية الحقيقية لا ينزوي في ناحية دون أخرى، وإنما يتوزع في كل نواحي الحياة والعلاقات والمشاركات. الليبرالية الأصيلة من قيمها نشر المحبة والحريات، وتدشين المساواة والعدل وضمان حرية التعبير مهما كان شكل التعبير، بشرط عدم تجاوزه ناحية حريات الآخرين، ليبراليتنا المموهة لا تعترف بغير التعاطي الشمولي واللغة الإطلاقية والرؤية الأرثوذكسية (فرض رأي واحد)، كما هي تمارس تهديم وإقصاء المختلف، بوصف الليبرالية النقية هي ما يمتلكها هذا المخيال الليبرالوي فحسب، حتى تحولت هذه الليبرالية إلى تيار أكثر تطرفاً وقاطعية وإطلاقية من التيارات الإسلامية، التي صارت أكثر نضجاً وأقرب تماساً وتماهياً مع قيم المدنية من تلك الليبرالية المموهة. (الحصاد) عادة ما تأخذ النظريات والأفكار لون ونكهة البيئة التي تحل عليها، ذلك أن المجتمعات تتباين في قابلياتها في التماهي مع الأفكار سلباً أم إيجاباً، بحسب الموروث الثقافي المحلي، الليبرالية توطنت بيئتنا بما يوازي بطانتنا الفكرية والذهنية، وانساحت من القيم الخلاقة إلى منظومة تستدعي المضمرات الآيديولوجية الشمولية، وتحولت من أفكار نسبية إلى عقيدة منحازة، الإسلاميون شارفوا أن يكونوا أكثر اتساقاً وتساوقاً مع إيماناتهم وقيمهم من عامة الليبراليين، ذلك أن الإسلاميين تتساوق ممارساتهم وأفعالهم مع منظومة عقيدتهم، بصرف النظر عن صوابيتها وعقلانيتها، بخلاف الليبراليين الذين يتباين مقولهم عن فعلهم وطرحهم عن ممارساتهم، لا يلام الوعي الاجتماعي في منافرة ومنابذة الليبرالية والليبراليين، نظراً لرداءة اللغة الليبرالية وإقصائيتها، إضافة إلى حس التعالي والطغيان تجاه المجتمع وقيمه، ودعوى حملان أفضلية وأحقية توجيه المجتمع، كما توهم الليبراليون عدم رشد المجتمع، وأنهم الأكثر رشداً. الحرية الفردية من أبجديات الليبرالية الحقيقية، وأكثر ما تكرسه الليبرالية، لكن في حال ليبراليتنا المولدة ليس ثمة احترام للحرية الفردية من ليبراليينا، إذ ستجد العدوان على الحرية الفردية والرأي المختلف كأشد من غلواء الآيديولوجي الديني، حينما يشمت ويفرح من ينتسب لليبرالية بعثرة ونازلة تقع على المختلف الديني، فتلك رسالة تشي بالروح الاستعدائية والإقصائية الضيقة، وهذا ما يبرهن على المسافة الضوئية ما بين كثير من ليبراليينا والليبرالية الأصيلة، التي لا تفرق بين الأطياف في التصنيف والعدالة والمساواة. باختصار، (الليبرالية السعودية شبه ليبرالية، كما هي شبه عقيدة مللية، ولم تضف للوعي غير زيادة الأدلجة والتنابذ والتجهيل والكراهية).