استيقظت حكاية «جهاد النكاح» مجدداً بعدما نامت نحو سنة. صحيفة تونسية أيضاً أيقظتها عبر حكاية امرأة تونسية عائدة من سورية. وهذه المرة أيضاً شُحنت الحكاية بما لا يقبله عقل. رواية مفككة وعديمة الانسجام وضعيفة الحجة، لكنها تملك من القوة ما لا يمكن مقاومته. فما إن تصل الى تونس حتى تجد من يسألك: هل أنت هنا بسبب هذه المرأة التي نشرت الصحيفة قصتها؟ مارست «جهاد النكاح» في سورية مع أكثر من مئة «مجاهد» أمام أعين زوجها في أسبوع. ويشيرون إليك إلى أنها الآن في المستشفى، وزوجها نقل الى مستشفى للأمراض النفسية! قصة هذه المرأة أكثر إغراء من تغطية الانتخابات النيابية، فالبديهي أنك وصلت إلى تونس لتغطية هذه الانتخابات، لكن حكاية هذه المرأة تتقدم. ستجد من يؤكد لك أن وزارة الداخلية هي من وثّق هذه الحالة، وأن المرأة وزوجها متاحان للصحافة. وستبدأ رحلة شقاء صحافية لن تعثر في نتيجتها سوى على خيبتك. هذا تماماً ما جرى قبل نحو سنة، في تونس أيضاً، ذاك أن وزير الداخلية لطفي بن جدو كان كشف أن مئة امرأة تونسية عُدنَ من سورية بعد تجارب مريرة مع «جهاد النكـــاح». وعــــقب ذلك تماماً وصلنا إلى تونس، كنا عشرات من الصحافيين العرب والغربيين، ولم يعثر أي منا على امرأة واحدة ممن أشار إليهن الوزير. وفي النهاية قالت لنا وزيرة شؤون المرأة إن لا صحة لكلام زميلها، وإن وزارتها بحثت أيضاً عن هؤلاء النساء ولم تعثر عليهن. لا يكفي ذلك لإقناع أحد بأن حكاية «جهاد النكاح» ليست صحيحة. الناس راغبون في أن تكون صحيحة. حتى أولئك الذين ينفونها، لطالما أبقوا، خلال نفيهم، احتمال صحتها قائماً. من مدينة الرقة السورية يكتب صحافيون وناشطون مناهضون لـ«داعش» أن لا «جهاد نكاح» في مدينتهم، وأنهم تعقّبوا وتقصّوا نشاط «كتيبة الخنساء» وهي الفرع النسائي لـ «شرطة داعش» في المدينة فلم يعثروا على أثر لـ «جهاد النكاح»، لكنهم يشيرون إلى أن حكايات تردهم من مدينة الموصل العراقية عن نساء يتولّين هناك هذه المهمة. وفي المقابل يشير ناشطو الموصل من مناهضي «داعش» إلى أن التنظيم ينشط في قضية «جهاد النكاح» خارج المدينة، اذ إن تقاليد المدينة لا تحتمل هذا النوع من الزواج، و«داعش» لا يريد استفزاز المدينة بهذه الشعيرة الغريبة. لكن الغريب أن تراشق مدن المشرق بخرافة «جهاد النكاح» لا يشمل مدن المغرب، فبينما تطرد كل الرقة والموصل الخرافة عن نفسها، وتحيل كل واحدة منهما القصة على الأخرى، تحيك تونس قصصاً متخيّلة عن نساء تونسيّات مارسنه، لكنهن فعلن ذلك في المشرق، وفي سورية تحديداً، وهُنّ عُدنَ إلى تونس تائبات نادمات. فبالنسبة إلى الوعي الجماعي التونسي الراغب في أن تكون الحكاية صحيحة، «الدنس وقع في المشرق». وينسحب التقاذف بـ «جهاد النكاح» على ظاهرة «داعش» بأسرها، إذ يمكن أن نلاحظ سوريين ينسبونها الى وجدان غير سوري، وهم محقون بنسبتها، وفي تونس يسمي مثقفون تونسيون المهاجرين لـ «الجهاد» من مواطنيهم الى سورية «مستشرقين»، وهم أيضاً محقون في ذلك. لا أحد غير محقٍ في تناوله «داعش»، فهي الآن مساحة تخيّل جماعي مشتركة. ولهذا فإن «جهاد النكاح» حقيقة على رغم كل الوقائع التي تنفيه. الرويات الركيكة لا تكفي لنفي الظاهرة، فثمة عقل جماعي يرغب في وجودها، وهو عقل قد يتّسم بالحكمة على صعد أخرى. إنه وزير الداخلية التونسي، وهو الصحافية التي دأبت على تأليف الروايات، وهو الناشط الرقاوي الذي قال إن «جهاد النكاح» يجري في الموصل، وهو أيضاً المصلاوي الذي أشار إلى أن «داعش» تجري عمليات «جهاد النكاح» خارج مدينته. ثم إن «جهاد النكاح» يليق بـ «داعش»، وهذا ليس على سبيل هجاء التنظيم، إنما بسبب لاوقعية هذا الادعاء، فلطالما أدهشنا التنظيم بمفارقاته، وبوقوفه على الحد تماماً بين منتهى الانغماس والتوحّد والتزمّت وبين ذروة التهتّك والرذيلة والجريمة. ثم إن «داعش» أقرب إلى كابوس منه إلى سلطة، والكوابيس قد تبدو غير واقعية، تماماً كما هو «جهاد النكاح». فالسيدة الرقاوية التي كتبت على صفحتها على فايسبوك: «حلمت بالأمس أن «داعش» باعني كسبية مثلما باع فتيات إيزيديات في العراق، واستيقظت وأنا ممسكة بقدمي التي ثُبّتت بمسمار فولاذي في الكابوس قبل اغتصابي، وإذ أدركت أنه مجرد كابوس فإن عينيّ تفحصتا كل جزء من جسدي للتأكد من أن أحداً لم يسبنِ»، إنما كانت تشير إلى أنها تعيش على شفير ما جرى لها في الكابوس وبالقرب منه. ويبدو أن «داعش» نفسها لا ترغب في طرد هذه الصورة أو في نفيها عن نفسها، لا بل أنها ربما وجدت لها تصريفاً في الصورة التي تبحث لنفسها عنها. أليس غريباً ألاّ يصدر عن التنظيم بيان نفي لوقائع «جهاد النكاح» أو تهديدٌ لمروّجي أنها تمارسه، على رغم أن التنظيم لا يترك شاردة ولا واردة إلا ويعلّق عليها! وبهذا المعنى يبدو الجزم بعدم واقعية «جهاد النكاح» أشبه بمغامرة. لا سيما عندما نعرف أن هناك من غامر، ومن غير مريدي «داعش»، في أن نفي أو استبعاد ما جرى من عمليات سبي وبيع للنساء الإيزديات في الموصل، إلى أن أصدر التنظيم بياناً مطولاً شرح فيه «المسوّغات الشرعية» لعمليات السبي واعترف بأن ما قام به نشطاؤه في الموصل إنما هو من باب ممارسة «حقهم الشرعي». اذاً إنها اللحظة التي تُلغى فيها المسافة بين الخيال والواقع. ليس مهماً ما إذا كان «جهاد النكاح» حقيقة أم خيالاً. إنه الآن في منطقة الممكن، ومن يُقرّر حقيقة حصوله ليس رجحان عقل وصحّة تقدير، إنما خيالٌ جامحٌ لا يمكن ضبطه عبر التوقّع. لا قيمةَ لكل استقصاءاتنا التي أفضت إلى نفيه. والسيدة المتخيّلة التي روت للصحيفة التونسية وقائع لا تقبلها عقولنا، عن ممارستها «جهاد النكاح» مئة مرة في أسبوع، هي ما يبدو أنها ممكنة، ومن الآن وصاعداً ستكون عقولنا «الرصينة» هي الحقيقة غير الممكنة.