تناقلت الصحف والمجلات الطبية العالمية مؤخراً خبر السبق العلمي في اكتشاف طريقة جديدة يمكن من خلالها علاج مرض السكري للأبد. ومفاد الخبر هو نجاح علماء من جامعة هارفارد في تحويل خلايا جذعية جنينية (stem cells) إلى الخلايا المنتجة للأنسولين في البنكرياس والمسماة بخلايا (بيتا) بكميات كبيرة يمكن زراعتها لمرضى النوع الأول من السكري. وتستطيع هذه الخلايا أن تقرأ بدقة متناهية معدلات السكر في الدم وتستجيب بإفراز الكمية اللازمة من الأنسولين بدقة متناهية كذلك، تماماً كما تفعل خلايا (بيتا) الطبيعية في الإنسان السليم. أي أن هذه الخلايا (بيتا) تقوم بتحسس كمية السكر في الدم وإفراز الكمية اللازمة من الأنسولين في كل ثانية بدقة متناهية لا يمكن تحقيقها بأي حال من الأحوال بحقن الأنسولين المستخدمة حالياً وتحت أفضل الظروف. وقد نشرت نتائج الدراسة في مجلة الخلية في عددها الصادر في التاسع من أكتوبر 2014. ويعد هذا الإنجاز قفزة علمية هائلة في علاج مرض السكري منذ اكتشاف الأنسولين في العشرينات من القرن الماضي، واستنساخ وحدته الوراثية في السبعينات وتصنيعه بكميات صناعية كبيرة في أوائل الثمانينات، أي أنه لم يكن هناك تقدم جذري في علاج السكري منذ الثمانينات بالرغم من الأموال الهائلة التي ضخت في الأبحاث والدراسات، فكل الإنجازات لم تكن لعلاج السكري وإنما للتحكم في السكر فقط من أجل خفض المضاعفات المترتبة على ارتفاعه في الدم. أما هذا الاكتشاف فيصنف على أنه قفزة حقيقية نوعية وخطوة رئيسية في النجاح في علاج السكري علاجاً حقيقياً دائماً. وهذا الاختراق العلمي الباهر هو تتويج لمسيرة أبحاث مضنية بدأها البروفيسور دوجلاس ملتون في هارفارد قبل 23 عاماً مع فريق من 50 باحثاً من الطلاب، فقد بدأ البروفيسور ملتون العمل الجاد لإيجاد علاج دائم للسكري عندما شخص ابنه المولود حديثاً سام بإصابته بالمرض قبل 23 عاماً وبعده ابنته إيما عندما كان عمرها أربعة عشر عاماً. وأخيراً وبعد 23 عاماً من العمل اليومي الدؤوب، استطاع ملتون وفريقه اكتشاف الخطوات المحددة والمعقدة لتحويل الخلايا الجذعية الجنينية لخلايا بيتا المماثلة والمطابقة للخلايا الطبيعية في البنكرياس. وتم تحديد 6 خطوات ولكل خطوة مزيج مثالي من المواد الكيميائية لتحقيق هذا التحويل من خلية جذعية إلى خلية بيتا العاملة. وقد تم حقن هذه الخلايا لفئران مصابة بالنوع الأول من السكري مما نتج عنه نجاح هذه الخلايا المطورة معملياً في أن تنتج الأنسولين الطبيعي لتشفى الفئران من السكري تماماً في أقل من عشرة أيام وأن تستمر الخلايا في عملها والحفاظ على معدلات سكر طبيعي جداً لعدة شهور. وقد نجح ملتون وفريقه في إنتاج كمية كبيرة من الخلايا (أكثر من مائة مليون خلية) وهي الكمية المطلوبة للشخص الواحد لعلاجه من السكر. وتؤكد هارفارد أن أبحاث ملتون تفوقت على جميع الدراسات والأبحاث الأخرى السابقة من ناحيتين: النجاح في إنتاج خلايا بيتا البنكرياس من خلايا جذعية جنينية بكميات كبيرة، وتفادي الهجوم المتوقع من جهاز المناعة ضد الخلايا الجديدة ورفض الجسم لها في الفئران. ويؤكد ملتون أنهم على بعد خطوة واحدة فقط قبل إجراء الاختبارات على الإنسان، وذلك بإيجاد وسيلة لحماية الخلايا من هجوم الجهاز المناعي في جسم الإنسان، باعتبار هذه الخلايا دخيلة على الجسم وهو المتوقع حدوثه. وهنا يكمن التحدي القادم في التوصل إلى طرق للحفاظ على هذه الخلايا داخل جسم الإنسان وحمايتها من رد فعل الجهاز المناعي واستمرار عمل الخلايا على المدى البعيد. والسؤال المهم هو: متى يمكن زرع تلك الخلايا للمرضى لعلاجهم؟ يجيب ملتون عن هذا السؤال ذاكراً مرحلتين: أولاً: أن يتم تحويل خطوات العمل إلى طريقة تصنيع متوافقة مع شروط هيئة الدواء الأميركية، وإيجاد طرق لتصنيع المنتج في أنقى صوره وبكميات كبيرة تفي بالاحتياج العالمي، وهذه الخطوة يمكن إنجازها في عام واحد. ثانياً: تخطي العقبة الكؤود لكل المحاولات السابقة لزرع خلايا البنكرياس من متوفين وهي الجهاز المناعي الطبيعي في الإنسان الذي يتعامل مع الخلايا كدخيل ويشن عليها هجوماً كاسحاً مما يؤدي إلى تدميرها وبذلك الاضطرار لإعطاء المرضى أدوية تمنع هذا الرفض مع ما يرافق ذلك من مضاعفات. ولتخطي هذه العقبة الكؤود فقد تعاون ملتون مع باحثين في المعهد العالمي “MIT” أشهر جامعة تقنية في العالم، ورأس هذا البحث دانييل أندرسون خبير الهندسة البيولوجية لتطوير وسيلة تغليف كبسولة تحمي الخلايا من نظام المناعة، وقد ينتهي الأمر بجهاز على هيئة وحجم بطاقة ائتمان يمكن زراعته تحت جلد المريض. وبذلك تستطيع الخلايا قراءة معدلات السكر وإفراز الأنسولين اللازم في محفظة محمية لا يراها الجهاز المناعي في الجسم. وقد بدأت بالفعل شركة “ViaCyte” بسان ديجو بابتكار جهاز يسمى “Encaptra” لحماية الخلايا من الهجوم المناعي وسيتم اختباره على ثلاثة مرضى ثم 26 مريضاً العام القادم. وقد أكدت الباحثة سارة جونسون من مؤسسة “JDRF” التي تقوم بتمويل الدراسة أن ما اكتشف لا يعتبر بعد علاجاً للسكري، وإنما يمثل قفزة في الخطوات الرئيسية في الطريق لتحقيق العلاج، وأن الخطوة الثانية هي التحكم في رد فعل الجهاز المناعي. فهل سنرى خلال عامين أو ثلاثة علاجاً أبدياً للسكري من النوع الأول الذي يعاني منه 34 مليون إنسان على وجه الأرض؟ سيستفيد من هذا العلاج كذلك حوالي 10 إلى 20% من مرضى النوع الثاني الذين يعتمدون على حقن الأنسولين للتحكم في السكر. إننا أكثر ثقة في تحقيق ذلك بعد السبق العلمي الذي حققه البروفيسور ملتون وزملاؤه. إنه جهد 23 عاماً لفريق عمل بدعم مؤسسة خيرية قد يغير من وجه علاج مرضى السكري للأبد. وإنني أتمنى وأدعو الله أن أرى اليوم الذي يكون لنا كأمة عطاء مثل هذا يفيد الإنسانية فنجسد به عملاً وواقعاً معنى كلمة (اقرأ)، أول كلمة وفرض وأمر نزلت به آخر الديانات السماوية. سئل فولتيير: من سيقود الجنس البشري؟ قال: الذين يعرفون كيف يقرؤون. إنها قراءة الكون والتاريخ والعلوم والآيات الربانية. فلكل داء دواء عرفه من عرفه وجهله من جهله كما علمنا رسول الإنسانية.