الدنيا وما فيها مجرد ملعب كبير يتبارى فيه الجميع ويلهون ويمضون أعمارهم في اللعب، الكل يحاول أن يملأ فراغ اليوم والليلة باللعب، الكل صغيراً كان أم كبيراً، رضيعاً أم شيخاً، رجلاً أم امرأة، كل أولئك كان منهجهم لهواً في لهو. كم أحس بالشفقة على من يتوهَّمون العالم بأنه بقعة جادة، الكل يجري بحسب منطق الجدية والواقعية، وما إلى ذلك من الكلمات الرنانة.. للأسف سأخيِّب ظنك هذه المرة عزيزي القارئ، الواقع بعيد كل البعد عن الجدية ومنغمس حد أذنَيه في اللهو واللعب! الطفل الصغير منذ مسقط رأسه وهو يلهو ويجر معه محيطه إلى ملعبه، يلعبون رغماً عن أعمارهم ومناصبهم، ورغماً عن نياشين الجدية على أكتافهم، لغة واحدة يفهمها هي المداعبة واللهو، حتى إن إطعامه ليس سهلاً يلزمه الدخول إلى معترك اللعبة التي يفرض الوليد أركانها ويشترط حدودها. في عش الزوجية القائم على رباط الزواج الجاد والحازم يمضي الأزواج أوقاتهم في اللعب، حتى أثناء لحظات الخصام والعتاب، فهم يلعبون لعبة نفسية غريبة يحاول كل طرف أن يبين خطأ الطرف الآخر، فيكسب نقاطاً تجعل الطرف المقابل يحاول الرد وكسب نقاط في المقابل، فتبقى لعبة نفسية تدور في حلقة مفرغة لا تتوقف إلا بانهزام طرف يعترف بهزيمته، ولكن في المقابل يغرس جرحاً غائراً في رباط الزوجية، سرعان ما يتكشف مع أول خصومة في الطريق فتبدأ فصول لعبة جديدة. الطلبة في مدارسهم يلعبون، حتى في حجرات الدرس وفي قمة الانتباه والتركيز فيما يجود به المعلم من حكم ودروس فهم يلعبون! أليست البيداغوجية مجرد لعبة يحاول من خلالها المعلم جر انتباه الطالب نحو الدرس فتارة يرغبه وتارة يرهبه وتارة يستدرجه.. كلها أركان اللعبة. السياسيون وما أدراك ما السياسيون! إنهم أصحاب ربطات العنق الحريرية والنظرات الجادة والكلام المعسول، إنهم يسهرون على شؤوننا ويبذلون أوقاتهم على تسطير القوانين والنظم والتدابير الجادة، لكن رغم كل هذا فهم يمضون أوقاتهم في اللعب! نعم، ألم تسمع باللعبة السياسية واحترام اللعبة الديمقراطية ومنطق اللعب النظيف في المعترك السياسي؟ الانتخابات مجرد لعبة، فهناك رابح وخاسر وقواعد للعبة، الرابح ينتشي، والخاسر يغط في أزمة نفسية حادة.. كل هذه أعراض اللعب. في التجارة والأعمال نلهو ونلعب كالأطفال، فأساسها كله قائم على منطق الربح والخسارة والمغامرة، الأسواق والبورصة والأسهم لا تختلف في قواعدها عن ألعاب الصغار، فشغف الربح والخوف من الخسارة والحفاظ على المكاسب، كلها كانت حاضرة في أذهاننا ونحن صغار حينما نلهو ونلعب ألعابنا البسيطة، اسألوا أباطرة الصناعة والتجارة ما الذي يجعلهم لا يتغيبون عن مكاتبهم رغم أنهم راكموا الأموال الطائلة ولم يعودوا في حاجة للعمل.. إنه شغف اللعبة التجارية! في قمة جديتنا نحن نلعب؛ فلكي نبدو جادين في أعمالنا اليومية فنحن نلعب لعبة الأقنعة، فما إن نغادر بيوتنا حتى نضع قناعاً على وجوهنا يراه الآخرون في معترك العمل والوظيفة.. قناع المدير الحازم أو اللطيف والموظف المتفاني أو الكسول والحارس الغامض أو السائق المرح.. وما إن نصل إلى باب البيت آخر اليوم حتى ننزع قناع الوظيفة؛ لنجعل مكانه قناعاً طرَّزته على وجوهنا سنوات اللعب داخل جدران بيوتنا. يقول ربنا الكريم: "اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ".. إنها الحقيقة التي أقرها القرآن الكريم، فحياتنا مجرد لعبة نتقنها منذ اليوم الأول الذي استنشقنا فيه أولى نسمات هذا الكوكب. اللعب في حد ذاته ليس جرماً، بل هو سر بقاء الجنس البشري على هذه الكرة الأرضية.. اللعب هو سر تفاهمنا وتدافعنا واحترام اختلافنا.. اللعب هو سر تدبير عيشنا المشترك على هذا الكوكب رغم خلافاتنا وعراكاتنا.. فنحن نلعب طيلة مكوثنا على هذه الأرض ونضع قواعد ليستمر لعبنا، ثم نخرق قوانين اللعبة حتى لا نمل اللعب، فنضع قواعد جديدة للعبة اختراق اللعبة، لنظل هكذا حتى نجد أفراداً مجتمعين حولنا يبكون فلا ندري حينها أيبكون فراقنا أم يبكون نهاية اللعبة؟! ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.