يتضجر ويشتكي رجال الدفاع المدني كثيراً من تصرفات بعض المراهقين هواة الاستعراض التي تنشط في مثل هذه الأيام مع بدء الوسم وتغيّر الأجواء وهطول المطر وجريان الأودية، وتحديداً عندما يندفع هؤلاء بسياراتهم في لحظة نشوة على أنغام "شيلات" الفخر إلى بطون الأودية وتجمعات السيول الخطيرة، أمام جمهور المصفقين المتأهبين لمقاطع التصوير، فإذا ما تورطوا و"نشبت" مركباتهم في الوحل هبوا لطلب النجدة بالاتصال على عمليات الدفاع المدني، يزبدون ويتوعدون إن تأخر في الوصول لموقع الحادث، غير آبهين بمسؤولياته الأهم، وفي أذهانهم فقط متى تنتشل مركباتهم الغارقة حتى يلحقوا بركب المغامرين. كما أنّ هناك تحديات ومراهنات عند بعض المغامرين حول القدرة على تجاوز الأودية أثناء جريانها بقوة وقت هطول الأمطار، وتكثر هذه المراهنات لاختبار حرفية السائق ونوع السيارة، ويشمل ذلك ما يطلق عليها السيارات "المرهمة"، وللأسف الشديد أنّ بعض هذه المراهنات تكون بمثابة انتحار تنتهي بكارثة، قد نخسر أنفسا، وقد نخسر السيارة، أو كليهما، خصوصاً وأنّ الكثير من المغامرين لا يدركون حقيقة خطر الأودية وخداع الماء، وإذا عرف ذلك يكون متأخراً، وهذا ربما يكون سر كوارث الغرق والاحتجاز والانجراف وحوادث تتكرر من هذا النوع. بائع السكر بداية نستحضر قصة منقولة لا تخلو من طرافة وفيها الكثير من المقارنات، حدثت في منتصف الستينيات الميلادية، ويتذكر تفاصيلها بعض أهالي محافظة الأسياح -رغم مرور زمن طويل-، عندما خرج أحد السائقين من بريدة بحمولة سيارته من "السكّر" كبضاعة جوّالة، كان يمر بها على بعض القرى والهجر لبيعها بالكيس أو قطاعي يجزئها بواسطة "الكيلو"، وكانت هذه الحمولة تمثل كل رأس ماله، إلاّ أنّه في منتصف الطريق -حيث كانت جميع الطرق ترابية وتعترضها الأودية ومجاري السيول- داهمه المطر فجأة، فعلقت سيارته ونجا هو بنفسه بعدما خلع عباءته وبعض ملابسه الثقيلة التي غطى بها جزءا من حمولته، في محاولة يائسة لحمايتها، على أمل أن يتوقف المطر ويعود لها، حيث قصد منزله ليلحق مع جماعته صلاة العشاء، حتى يصيح بهم ليهبوا معه في انتشال سيارته قبل أن تصل لها الأودية، خصوصاً وأنّ المطر بدأ يخف قليلاً، ولكنه عندما وصل إلى منزله وبدأ بتجفيف ملابسه على النار سمع صوت الرعد، وشاهد وميض البرق، من خلال فتحات الباب، فاستعجل ابنه الصغير حتى يستطلع الرعد على أمل أن تكون السحابة قد تجاوزتهم. ولكن الغلام الذي ما كان يعلم شيئاً عن سيارة والده العالقة زف له البشرى غير المفرحة له: "أبشرك تلسب" أي أنّ المطر يهطل بغزارة، وعلى الفور رد لا شعورياً وهو يسمع همهمات زوجته الساخطة في لكنة اليائس المحبط: "لسبك الشر إنت وإياها.. الله لا يبشرك بالخير"، ثم أسرع إلى المسجد وانتظر حتى انقضت الصلاة، حيث هب معهم مشياً إلى مكان السيارة، يحملون المساحي والحبال، يتلمسون طريقهم على وميض البرق، وبعد ساعات تمكنوا من الوصول للسيارة، إلاّ أنّ القدر سبقهم إليها، حيث غمرتها السيول، وأذابت كل ما تحتويه الأكياس، ليعودوا أدراجهم على أمل أن يتوقف المطر وتجف الأرض، حتى يعودوا مرة أخرى لاستخراج السيارة. مسالك ترابية في تلك الفترة كانت لا تزال طرق المنطقة عبارة عن مسالك ترابية معقدة تعترضها العديد من الأودية والمجاري الجارفة، وعندما تسيل تلك الأودية تتوقف حركة السيارات تماماً، إما جبرياً أو احترازا من قبل سائقها؛ للمحافظة على مركبته وحمولتها من الركاب والبضائع، وتنقطع الكثير من المدن والهجر في عزلة لا يعرف لها نهاية محددة، حيث لا "دفاع مدني" ولا وسائل إنقاذ يمكن أن تقدم العون لطالب النجدة فيما لو جرفت مركبته أو علقت في الوحل، غير فزعة المعارف والجيران بإمكاناتهم المحدودة التي لا تتجاوز دفع أو جر السيارة بالحبال والدواب، ولهذا كان السائقون يتوقفون غالباً في أماكنهم متى ما أدركهم المطر، وشعروا بالخطر، ويلزمون مواقعهم عادةً؛ حفاظاً على السيارة قبل أنفسهم إلى حين زوال الخطر، حتى لو تطلب منهم ذلك التوقف أياماً أو أسابيع متتالية؛ لأنّ السيارة لا تزال تصنف كحاجة غالية المنال، لا يدرك قيمتها إلا القلة من أفراد المجتمع، حتى إنّه كان بإمكان أي مواطن يسكن مدناً مثل بريدة أو عنيزة أو مدينة حائل معرفة عدد السيارات الموجودة، وأنواعها، وموديلاتها، وأسماء كل السائقين في مدينته، وكانت هذه السيارات لا تتحرك من مكانها إلا لمصلحة أو ضرورة ماسة، وللمشاوير البعيدة فقط. ترف وتسلية وقد تغيّرت الأحوال وأصبحت السيارة في الخليج عموماً من مكملات الترف والتسلية، ودخلت قائمة هدايا النجاح لطلاب مراحل المتوسط والثانوي، ووصولها لصغار لم يشقوا بجمع ثمنها، فمن الطبيعي أن تصبح أيضا لعبة وتسلية و"توسعة صدر" لهؤلاء المغامرين تحت قناعة "مثله مثل غيره"، وعلى أثر ذلك كان طبيعياً أن نرى مثل هذه السلوكيات التي صورت المواطن الخليجي على أنّه يملك بئر نفط في فناء منزله، ويختزن ملايين الريالات، يبذرها كيفما اتفق، وكان من ضمن هذه السلوكيات مغامرات دخول أو قطع الأودية ومجاري السيول الخطيرة، التي بدأنا نشاهدها مؤخراً تمارس من قبل مراهقين يعدونها نوعا من الفروسية، يستعرضون خلالها مهاراتهم في القيادة وقدرات مركباتهم، غير مبالين بما قد يحدث فيما لو علقت أو غرقت السيارة، وهم يعرفون أنّ الدفاع المدني سيحضر بآليته ومعداته مهما كلفهم الثمن حتى يستخرج سياراتهم، بمجرد ورود البلاغ، حتى يلحقوا بركب المغامرين الذين يبحثون عن مقطع فيديو تطير به أجهزة التواصل الاجتماعي، بعدما يركب عليه خلفيات غنائية راقصة من أهازيج الحماس والفروسية. عبء ثقيل هؤلاء المغامرون أصبحوا يشكلون عبئاً ثقيلاً على مراكز الدفاع المدني في الكثير من المدن والمحافظات أثناء المواسم المرتبطة بالأمطار، حتى اشغلوه عن واجبات حتمية ومسؤوليات رئيسة نتفق عليها جميعاً، تكون في بعض حالتها الحد بين الحياة والموت، فالدفاع المدني من منطلق حضاري يجد نفسه مجبراً على مساعدة مثل هؤلاء والاستجابة لنداءاتهم في جميع الأحوال، ولكن هذا قد يشغله عما هو أهم من سيارة مراهق غير مبالٍ، خصوصاً مع النقص الحاصل في بعض المراكز. وتشير بعض المصادر إلى أنّ هؤلاء المغامرين يلجؤون في بعض الأحيان إلى الكذب والتضليل في بلاغاتهم؛ لضمان سرعة وصول فرق الدفاع المدني، فيدعون على سبيل المثال الاحتجاز أو وجود عائلة، أو أي حجة خلافاً للواقع، وحدث كثيراً أن حضر الدفاع المدني بناءً على ذلك فلم يجد شيئا مما ذكر، إلى أن وجد نفسه أمام الأمر الواقع، وعند تخليص صاحب البلاغ لم ينتظر طويلاً، إذ يباشر باستئناف ممارسة طيشه قبل انصرافهم، دون أي اعتبار لحضورهم وشقائهم من أجله، حيث قد يكونون عرضوا أنفسهم للخطر من أجل انتشاله وسيارته، ولو حصل أن تأخر لأي ظرف أهم فإننا كثيراً ما نسمع عبارات اللوم، وأحيانا التهديد والوعيد، وربما أيضاً تصوير الحادثة مع التلفظ على الدفاع المدني ولومه على عدم حضوره أو تأخره. غرامات مالية من هنا تبرز أهمية اتخاذ خطوات تنظيمية جديدة أخرى من قبل الدفاع المدني للحد من هذه الظاهرة، لا يكتفي بموجبها الدفاع المدني بمباشرة البلاغات التي تؤكّد وجود عائلة أو حالة احتجاز، بل يؤخذ في الاعتبار ما يدلي به المبلغ في كل الأحوال، بحيث يتم مباشرة البلاغ ومتى ما اكتشف عدم وجود محتجزين أو عائلة، أو ما يخالف البلاغ يطبق عليه ما يطبقه المرور وقطاعات أخرى تحتفظ بهواتف عدد من أصحاب "السطحات"، تتصل عليهم حتى يتواصلوا مع صاحب البلاغ مباشرة، من خلال رقم هاتفه، بحيث يتفقون بينهم على تكاليف أجرة خروج المعدة على حساب صاحب البلاغ، ويتم إعطاء الأرقام ل"المطعسين" و"الصيادين" و"هواة ملاحقة الطيور في البراري" أو عند تجمعات المياه والمجاري، وهي أكثر الحالات التي عادة ما تستدعي الدفاع المدني، ومن الممكن أيضاً أن تطبق غرامات مالية تقيد على حساب أصحاب البلاغات الكاذبة والمخالفة للواقع.