أتى به الطائف وذهب به الإرهاب. الرئيس اللبناني رينيه معوض الذي أمضى 17 يوما في موقع الرئاسة الأولى، كان من المفترض أن تكون لست سنوات، إلا أن عبوة ناسفة زرعت على جانب طريق في بيروت أوقفت الحكاية وقتلت رئيس الطائف كما يحب زملاؤه أن يطلقوا عليه. جريمة اغتيال الرئيس معوض ما زالت لغزا بالنسبة لكل متابع وإن كانت الأصابع تشير إلى مكان واحد. عقيلة الرئيس معوض النائب، نائلة معوض كشفت لـ «عكاظ» «كل الحكاية».. حكاية الطائف وحكاية الاغتيال. • ارتبط اسم الرئيس معوض باتفاق الطائف ما هي الظروف التي أدت إلى صياغة الطائف وما دور الرئيس معوض فيه؟ •• الإعداد للطائف تم طوال سنتين من الاجتماعات المتواصلة بعد حرب الإلغاء التي خاضها العماد ميشال عون ضد القوات اللبنانية، وبعدها حرب التحرير ضد الجيش السوري في مارس 1989، وسارت المفاوضات على خطين متوازيين، الأول فيما كان يسمى المنطقة الغربية بواسطة لجنة شكلت برئاسة الرئيس الحسيني ولجنة ثانية في بكركي ضمت رينيه معوض ونصري معلوف وممثلين عن داني شمعون والعماد ميشال عون وغيرهم، واللجنة الأخيرة لم تقر في أي بند من دون العودة إلى البطريرك الماروني. وذات ليلة من ليالي العام 1989 لبينا دعوة غداء في منزل الرئيس الحسيني ودار الحديث بين الرئيسين عن المصالحة الوطنية التي يعدون لها بعد التوقيع على اتفاق الطائف، وأذكر أنني قاطعتهما وقلت: كفوا عن هذا الحلم، لن تكون هناك أية مصالحة في لبنان. عرف عن الرئيس رينيه أنه من طباخي الطائف وبعد التوقيع على الوثيقة وفور عودته من المملكة إلى لبنان قال أمام المهنئين: إنها المرة الوحيدة التي لم أبذل خلالها جهدا لأترشح لرئاسة الجمهورية. الطائف جاء كنوع من التسوية، ولا نقصد انتقاصا أو ضعفا بكلمة «تسوية» على العكس هناك ملء الشجاعة أن نقف كلبنانيين ونقول إننا أخطأنا نحن وشركاؤنا في الوطن ولم يعد باستطاعتنا السكوت على أخطائنا وصار لزاما علينا أن نفتح باب المشاركة أمام الجميع في بناء الوطن. فالطائف هو الدستور الثاني الذي قُدم للبنان، وكان واضحا لجهة تحديده أن لا سلطة إلا سلطة الدولة، ولا وجود لسلاح في لبنان إلا سلاح الدولة. كان بمثابة إعادة بناء وطن ودولة، فلا أوطان دون إقامة دولة، ولا تقام دول بدون أوطان. والوطن للجميع ليس. وضع الطائف حلولا ومعالجات لغالبية المشكلات التي اختلف عليها اللبنانيون، مثل العلاقة مع سوريا، وإعادة انتشار الجيش تمهيدا للانسحاب في سبتمبر 1992، والديموقراطية التوافقية والقيم المشتركة وتعزيز استقلالية القضاء وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها واحترام حقوق الإنسان وقبل أن يغادر النواب اللبنانيون مدينة الطائف تم الاتفاق على ضرورة إجراء الانتخابات الرئاسية في أسرع وقت ممكن. ما سر الأوراق البيضاء؟ • إذن.. كيف انتخب رينيه معوض رئيسا؟ •• حصل اتفاق بين النواب ودعم عربي ودولي غير مسبوق لإنهاء الأزمة اللبنانية، لكن العماد ميشال عون ظل متمسكا بموقعه في قصر بعبدا، ورفض ما توصل إليه اللبنانيون عبر «اتفاق الطائف» ومنع النواب المسيحيين من العودة إلى منازلهم حيث كانت السلطة له، فلجأ بعضهم للإقامة في المنطقة الغربية، وغادر آخرون إلى فرنسا بانتظار تحديد ساعة الصفر للاتفاق على مكان ينتخبون فيه الرئيس، إلى أن حدد الرئيس حسين الحسيني الخامس من نوفمبر 1989 موعدا لانتخاب الرئيس في مطار القليعات العسكري. كان الرئيس رينيه معوض أحد أبرز الشخصيات المطروحة لملء الفراغ الدستوري، وحضر يوم الانتخاب 58 نائبا إلى مطار القليعات وفاز معوض في الدورة الأولى بـ 36 صوتا، ثم فاز بالأكثرية المطلقة في الدورة الثانية بعدما انسحب كل من سعادة والهراوي ففاز معوض بغالبية 52 صوتا ووجدت ست أوراق بيضاء. منعته.. لكنه أصر • في يوم الاستقلال اغتيل الرئيس معوض، ما هي حكاية اللحظات الأخيرة التي سبقت عملية الاغتيال؟ •• عشية الاستقلال.. شعرت بقلق كبير لأن الرئيس كان مصرا على الذهاب إلى السراي الحكومي في بيروت في ظل الظروف التي كانت تمر بها البلاد. ما زلت أذكر ذلك اليوم، دار حديث بيننا لأول مرة منذ انتخابه رئيسا وكان حديثا مقتضبا كنت أحاول منعه من الذهاب إلى السراي، وقلت له بالحرف الواحد: «إن ذهابك إلى احتفال الاستقلال بمثابة الدعوة لاغتيالك». فرد: «ولماذا يريدون اغتيالي؟»، فأجبته: لبنان يعيش «خضات» أمنية وأحداثا منذ 15 سنة فلماذا سيسهلون عليك كافة الأمور؟ فأجابني: «أنا رجل لا يحمل في كفيه نقطة دماء واحدة، ومشهود برفضي المساومات بين الطوائف حتى لو كانت في مصلحة طائفتي أو لأبناء طائفتي، أنا الرجل الذي احترم الجميع، من يؤمنون بمبادئنا، ومن يرفضون أفكارنا، وعندما كنت وزيرا للتربية لم أتخل يوما عن واجباتي وتواجدت تحت القصف الإسرائيلي في وزارتي بشكل دائم لأن هناك واجبات في أعناقنا. فلماذا تتصورين دائما أن هناك من يريد اغتيالي؟». الرئيس معوض كان مهددا، فقد وصلته رسائل تهديد علنية كتهديد حزب الله عبر الصحف ومفادها أن كل من اشترك في اتفاق الطائف حسابه آت، ورسائل أخرى أنا ترجمتها أنها تشكل خطرا على حياته خاصة بعدما رفض طلبا لنائب الرئيس السوري في حينه عبدالحليم خدام بتوزير أشخاص موالين للنظام، فرفض رينيه الأمر جملة وتفصيلا (كان خدام قد طلب توزير ميشال المر). وحدث أيضا أن اجتمع بكل من المسؤولين السوريين حكمت الشهابي وغازي كنعان ونقل إليهما نيته بأن يذهب الجيش اللبناني في المرحلة الأولى إلى البترون فرفضا طلبه وبعد هذا الاجتماع لمست في نبرة صوته شيئا من الامتعاض. وحدث أيضا أن قالوا للرئيس معوض أثناء عودتنا إلى لبنان من باريس سنرسل لكم طائرة عبدالحليم خدام لنقلكم وستحط في الشام وبعدها إلى بيروت فأجابهم رافضا للفكرة وقال: لا شغل لدي في الشام، أريد التوجه مباشرة إلى مطار بيروت، فأخبروه أنه سيتم استهداف الطائرة التي سيعود عبرها، فأجابهم: لا بأس بما يحضرون لي وسأعود عن طريق بيروت. في كل هذه الأجواء لم أستشعر بها خيرا. أخفوا عني الحقيقة • أين كنت لحظة الاغتيال وكيف وصلك الخبر؟ •• في يوم عيد الاستقلال اتفقنا أن يعود إلى المنزل في منطقة الرملة البيضاء للغداء وطلب مني أن أدعو السفير الألماني إلى مائدتنا، وكان هناك وعد من الألمان منذ أيام الرئيس الجميل أن يقدموا سنويا ستة ملايين مارك ومرت سبع سنوات دون أن يقدموا ما وعدوا به، وكان الاتفاق بيني وبين الرئيس معوض أن أبلغ السفير الألماني في هذا اليوم، بأمرين، الأمر الأول أن هديته أو هدية دولته بالمعنى الأصح هي أن يتمكن من تأمين التيار الكهربائي إلى كافة المناطق اللبنانية على أن يؤمنوا كافة المستلزمات ونحن في لبنان نتكفل فقط بسداد مكافأة اليد العاملة. وأكد الرئيس معوض على هذه الناحية لجهة تأمين ألمانيا كافة مستلزمات الكهرباء لأن هكذا ملف يمكن أن يدخله اللبنانيون في دهاليز الفساد. أما الأمر الثاني فهو تأمين خطوط الهاتف وضمن الشروط نفسها. وهذه أول مرة يسمح لي فيها الرئيس أن أتدخل بشأن يخص البلد. وبينما كنا نتباحث أنا والسفير الألماني بهذه الأمور في المنزل الذي كان عبارة عن قسمين، قسم جلست فيه أنا والسفير لبت هذين الأمرين وننتظر موعد الغداء، وفي القسم الثاني كان هناك مدعوون ينتظرون عودة الرئيس معوض من السراي، فهز الانفجار منطقة الرملة البيضاء ورأينا سحب الدخان بدأت تغطي سماء بيروت، فشعرت أن الانفجار استهدف الرئيس معوض، وانقطعت الاتصالات وبقينا ننتظر خبرا ما، حتى وصل اثنان من مرافقي الموكب وقد غطاهما الغبار فسألتهما: أين الرئيس، أجابا أنه سيأتي. مضت ساعتان على الانفجار دون أن يتصل بي أحد ليخبرني بالحقيقة، لكنني أدركت سريعا أنها عملية اغتيال، لكن المحيطين بي ظلوا يخفون عني الأمر بحجة أن الرئيس معوض اضطر للذهاب إلى منزل الرئيس الحسيني، فقطعت عليهم قصصهم وجزمت أمامهم أن الرئيس معوض هو من اغتيل، كونه لم يتصل بي مطلقا بعد الانفجار ولم يأت إلى المنزل رغم مرور الساعات. • متى سمعت للمرة الأخيرة صوت الرئيس؟ •• المرة الأخيرة كانت أثناء إلقائه خطاب الاستقلال وما زلت أحفظ نداءه الأخير قبل عملية الاغتيال بساعة واحدة حيث قال: «ندائي إليكم سؤال من القلب إلى القلب: هل نحب هذا الوطن؟ أعرف الجواب، تعالوا إذن، نتحد، نبني معا، نفرح ونعيش. عاش لبنان». دعاهم قبل اغتياله إلى المصالحة الوطنية وقال لهم: «حتى الذين يريدون استثناء أنفسهم من المصالحة لن استثنيهم»، وكان مصرا في خطابه أن قرار الخلاص قد اتخذ وسينفذ. هؤلاء يحرسون الرئيس • لماذا لم تتهموا النظام السوري في عملية الاغتيال مباشرة؟ •• حدث الاغتيال وبقيت الأيادي السورية خفية عن المسرح لأني استبعدت ضلوع سوريا في الاغتيال، فالنظام أفرز لنا رئيس جهاز المخابرات جامع جامع و100 عنصر من رجاله لحماية الرئيس معوض وضم موكب الرئيس أيضا مجموعة من الضباط اللبنانيين أبرزهم العقيد طنوس معوض والعميد رميا والعميد شقير إضافة إلى ضابط من الطائفة الشيعية وآخر من الطائفة السنية، كان حرس الرئيس متنوع المشارب، وقد أمنا لعناصر جامع جامع الإقامة في فندق البوريفاج بعدما وردتنا أخبار بشكل دائم أن الرئيس سوف يغتال. ويوم الاغتيال أذكر أن الضباط اللبنانيين المكلفين بمواكبته رجوه بأن لا يذهب إلى السراي، ولم أعلم شيئا بخصوص جامع جامع إلا أنه نجا من العملية التفجيرية علما أنه يرافق الرئيس في كل تنقلاته ولم ألتق به بعد الاغتيال أبدا. لم يظهر لنا أن السوريين كانوا يعارضون انتخاب الرئيس معوض، ولو أن سوريا غير راضية عن انتخابه، لما تم هذا الانتخاب ولم يحظ بتوافق. رينيه معوض لم يكن من الشخصيات التي ترددت بشكل دائم على سوريا، وأذكر أنه كان مرة عائدا من باريس بعد تمثيله المجلس النيابي أثناء احتفالات الذكرى المئوية الثانية للثورة الفرنسية عن طريق مطار الشام، وعندما وصل إلى المطار قالوا له إن الرئيس الأسد يريد الاجتماع بك. والرئيس معوض كان مقتنعا حينها بالعلاقات الممتازة مع سوريا، ولكن على قاعدة قناعاته وأن لا يملي عليه أحدا شروطه.كان يعلم أنه مهدد وقرر استكمال ما بدأه وكانت تحذيرات كثيرة تصله بأن يبقى في اهدن خلال هذه الفترة وأن بيروت تشكل خطرا على حياته. لم أشك لحظة في سوريا • متى تنبهتم أو شككتم بوجود أيادي سورية خلف عملية الاغتيال؟ •• فوجئنا بعملية الطمس التي مورست على مسرح الجريمة، وأقسم أنني لم أشك للحظة واحدة أن النظام السوري كان يقف خلف عملية الاغتيال، كنت أعتقد أنهم لو كانوا لا يريدون معوض رئيسا لما كانوا سمحوا بانتخابه، لذلك استبعدت عنهم الشبهة، كان يحظى بتأييد عربي ودولي وفاتيكاني حتى الأمم المتحدة أعلنت أنها تقف إلى جانب لبنان، قالوا نحن نؤيده، وراحت بي الظنون باتجاه الفصائل الفلسطينية، وحزب الله حتى إسرائيل، وظننت أن إسرائيل تقف خلف الجريمة لأنه عندما زارنا دايفيد ساترفيلد في منزلنا ويرافق حينها السفير الأمريكي الأول في لبنان الذي أتى يقدم للرئيس أوراق اعتماده، طلب إلي رينيه أن أسأل ساترفيلد لماذا إسرائيل ما زالت تريد محاربة لبنان، ولتمهلنا بعضا من الوقت. فاعتقدت بأن إسرائيل ممكن أن تكون خلف عملية الاغتيال. كذلك استبعدت اتهام النظام السوري لأن جورج حاوي أبلغ الرئيس معوض مرة أن هناك رفيقا في الحزب اعترف له شقيقه أنه مكلف بوضع عبوة ناسفة أمام منزل الرئيس معوض، والمفاجأة أنه تم توقيف هذا الشخص والإفراج عنه مباشرة دون أن نعلم ماذا حدث خلال التحقيق وكل ما علمته أنهم قالوا: لا صحة للمعلومات التي نقلها جورج حاوي. ولا شيء صحيحا من هذا القبيل. بعدها جرى طمس لمسرح الجريمة أضف إلى ذلك أن كافة المحاكم اللبنانية لا تحتفظ في ملفاتها ورقة واحدة عن ملف جريمة اغتيال الرئيس رينيه معوض علما أن القاضي سعيد ميرزا تسلم القضية بعد عدة أشهر من وقوعها إلا أنه لم يحدث أي تقدم في مسار التحقيقات. وقد شننت حربا على الحكومة ورئيس الجمهورية بسبب الطمس الذي مورس على الجريمة، فاتصل بي رئيس الجمهورية إلياس الهراوي الذي خلف زوجي، وقال لي: هل طلبت منا أن نفعل شيئا حيال القضية ولم نقم به؟ فأجبته: من اغتيل ليس زوجي رينيه من اغتيل هو رئيس جمهورية لبنان. وهنا بدأت أتنبه إلى كل تحركات وتصرفات المسؤولين اللبنانيين والسوريين، خاصة أن السوريين أوفدوا لي بضرورة زيارة الرئيس الأسد بعد مرور أربعين يوما على اغتيال رينيه لكي أشكره، فالتقيت حينها باللواء محمد ناصيف فكانت أجواؤه أسفا على ما أصابني وأصاب لبنان بفقدان رينيه معوض، وانسحبت السنوات الواحدة تلو الأخرى والشك لم يراودني للحظة أن النظام الأسدي هو من يقف خلف الجريمة وكله نابع من قناعتي أن السوري إن قرر شيئا فسيفعله، فلماذا سيتواصلون معي ويقدمون لي التعازي على رحيل رجل وطني (بحسب قولهم) وهم لا يريدونه كان موقفهم بالنسبة لي لا يحمل الشك. وقد زارني المبعوث الدولي الأخضر الإبراهيمي آنذاك ليقول لي: اغتالوا الطائف واغتالوا لبنان، فعتبت عليه وقلت له: لبنان لم يغتل، لا أقبل أن تربطوا مصير لبنان بشخص الرئيس. لم أقرأ في كلام الإبراهيمي شكوكه التي حاول أن يوصلها لي ولم أتقبلها حينذاك. أتى يخبرني برأيه لأنه رأى حماستي من أجل استكمال مسيرة رينيه والعمل من أجل لبنان لأني اعتبرت أن رينيه رحل وترك لي القضية التي آمن بها. غادر الإبراهيمي بعد انتهاء مهمته من لبنان دون أن يضيف أو يصر في تفسير موقفه هذا، وبمرور الوقت بدأت أفسر كل الكلام الذي سمعته خلال هذه الفترة أي بعد اغتيال رينيه، وفي عام 1990 كنت بباريس أثناء حرب ميشال عون فتلقيت اتصالا باكرا جدا حوالي السادسة صباحا وكان على الهاتف الأخضر الإبراهيمي يقول: من حقك أن تعلمي أن المعركة بدأت في لبنان.