×
محافظة مكة المكرمة

إصابة 5 معلمات في حادث مروري بطريق بسل

صورة الخبر

كنت قد تحدثت هنا عن زيارتي لعين العرب في صيف عام 2009، حيث اكتشفت ان الاكراد هناك يرون عبدالله اوجلان زعيم حزب العمال الكردي رمزهم الأعلى في نضالهم من أجل حلم الدولة الكردية. وكتبت حينها مقالا في (الرياض) "من عين العرب إلى عفرين". ومع توالي الاحداث الدامية في سورية منذ ربيع عام 2011، ظلت الذاكرة تستدعي مناطق زرتها وبيوتا دخلتها من درعا إلى حلب. في صيف عام 2010، كنت تراودني الرغبة في زيارة السويداء، معقل الدروز. ولأنني ادرك أن زيارة عابر لا تشبع الرغبة في معرفة المزيد. ومفتاح فهم اولئك او سواهم لن يتيسر إلا من خلالهم.. ولذا ظلت صورتهم تحمل اخلاطا في ذهن صديقي الدمشقي ككثيرين لا يعرفون عن ابناء وطنهم سوى القليل وربما المشوه. فاكتشاف العقل الدرزي، وخاصة ما يمت بعلاقة لعقيدتهم.. تبدو مهمة ليست سهلة. فمن يعرف منهم متحفظ جدا.. ومن لا يعرف فلن يكون ذا أثر في اكتشاف المزيد. التقيت بأحدهم صدفة في دمشق. ابديت لهم رغبتي في زيارة السويداء وقراها. وصلني هاتفيا بقريب له يعمل في دمشق، ويذهب الى قريته هناك كل يومين ثم يعود لدمشق مرة أخرى. وعندما جاءني ذلك الشاب الدرزي ليصحبني للسويداء، وجدته شابا بسيط التعليم يعمل دركيا في مخفر للشرطة في دمشق. انزعجت من حمله للمسدس والتلويح به.. بدا لي انه نزق ويفتقد للرشد. خالجتني الشكوك حول امكانية هذه الصحبة. اعتذرت منه على أمل ان نذهب في وقت آخر. وبعد يومين لم اطق صبرا. فالفرصة قد لا تسنح مرة اخرى. وها هي فعلا لن تسنح بعد هذا الخراب الكبير. هاتفته، وصحبته إلى السويداء المدينة، فالقرية، حيث كان في استقبالنا والده. أنقل للقارئ مشاهد ربما تثير لديه بعض الفضول، ولا اعتقد اني اقوى على الاجابة عن الاسئلة الاكثر مشقة في زيارة لم تدم سوى ليلة واحدة.. إلا انها ليلة من الليالي المختلفة. هناك سمة لاحظتها في آباء القرية، فعندما يصل احدهم الى مشارف الستين، فهو يعود ليستلهم من دينه ما يجعله اكثر التزاما بتعاليمه. ولذا يصبح لبس السروال الاسود الفضفاض والقميص الابيض، والكوفية البيضاء او الطاقية البيضاء جزءا مهما من مظاهر العودة والالتزام بتعاليم المذهب. وهذا ما كان عليه والد رفيقي. فقد عاد من ليبيا منذ سنوات، ومنذ تلك العودة وهو اكثر اقترابا من مجلس العقل، وان كانوا مازالوا يعتبرون عواما في نظر سيد المجلس. في كل بيوتهم التي دخلتها مجلس كبير. لفت انتباهي في مجلس مضيفي لوحتان لسورتي المعوذتين. وبينهما صور الاباء الراحلين. القرية كلها من سلالة واحدة. كلهم ابناء عم واقارب مهما بعدوا. شربنا من صنع الأب القهوة السوداء.. ولم يكن ثمة مجال للحديث سوى عن حياتهم اليومية ومزارعهم وانتاجهم. كان من بين أبناء مضيفي مهندس زراعي يعمل في السويداء ويقيم في القرية. بدا لي انه ضالتي.. غشى المجلس العديد من اصدقاء الاب واقاربه. كلهم عملوا خارج سورية في السعودية وليبيا.. وغالبا كانت مهنتهم في مجال البناء.. بل وجدت احدهم ممن عاش في بريدة قرابة عشر سنوات، وحتى اوائل السبعينيات الميلادية من القرن الماضي. أكلت على مائدتهم.. طعاما بسيطا إلا انه طيب. تحلقنا على صحن واحد كما نفعل هنا منذ زمن ليس بالبعيد. وقبل العشية ذهبت معهم لأرى مزارعهم.. معظم المزارع في طريق الصعود للجبل. التربة بركانية والطقس بارد في عز شهر اغسطس. كان الاب يملك مزرعة للتفاح والاجاص. لا يسقون تلك الاشجار المثمرة إطلاقا.. ولا تعدو خدمتها على رش المبيدات مرتين في العام. ويحتفلون بمواسم الثلج خاصة عندما يغمر الجبل بارتفاعات عالية. فهو يساعد كثيرا في إنماء تلك الاشجار المثمرة، ويعد بمحصول جيد وكبير. اخبرني الاب ان احوالهم تحسنت بعد ان اصبحت هناك شركات تبريد وتصدير للتفاح تعمل طيلة العام. عندما عدنا في المساء كانت هناك سيارة صغيرة تجوب شوارع القرية، وتنادي بالدعوة لحفل زواج احد ابنائها. دعوني لحضور حفل الزواج فوافقت على الفور. كان حفلا للرجال فقط. فالفصل قائم بين الجنسين. اصطففنا في المجلس الكبير وعلى المائدة وضعت الفاكهة والمكسرات. كان ثمة عريف للحفل. وكانت الاهازيج رجولية وحربية من تراثهم القديم، وخاصة حول بني معروف، وهي القبيلة التي ينتخون بها وينتسبون إليها.. وقفنا صفوفا بالمجلس نردد تلك الاهازيج ونتحرك رويدا رويدا بشكل دورات كاملة.. لفت انتباهي قول المنشد بصورته الجميل "ومن حايل سرينا على ظهور الركايب". بعد ان توقفت الاهازيج بين فاصل وآخر.. اقتربت من المنشد وسألته، لقد سمعت حايل فهل أنا مصيب. قال نعم. لقد ذهب جزء من المقاتلين الدروز اثناء مقاومة الاستعمار الفرنسي لجبل شمر، ثم عادوا، وكانت تلك القصيدة بعض تراث بني معروف حينذاك. لا يتزوج الدروز إلا من بعضهم. ومن يحاول ان يتزوج خارج الطائفة من الرجال او النساء فإنه يتعرض لكل صنوف الابعاد والهجر والايذاء. وقد حصلت حوادث مأسوية، حيث تقتل الفتاة لأنها تزوجت من خارج الطائفة.. ولم أجد من تفسير لهذا الانغلاق الشديد سوى أمر واحد، وهو خوف الطائفة على نفسها من الاضمحلال.. فرهان البقاء على عقائدهم ومذهبهم مرهون ببقائهم كتلة واحدة لا تخترق لا بزواج ولا بمساكنة.. حتى انهم في الجبل لا يبيعون أرضا على غريب، او بمعنى أصح على غير درزي يعرفون منبته وأصله، إذا لم يكن منهم ومن خاصتهم وعشيرتهم الاقربين. إلا أن ما هو أكثر اهمية بالنسبة لي، هو تلك السهرة التي قضيتها مع الابن المهندس الزراعي.. لقد وجدته منفتحا على اسئلتي حول عقيدة الدروز وتلك السرية البالغة حولها.. حتى أن بعض ابناء الدروز لا يعرفون عنها الكثير من التفاصيل. قال لي انه ايضا يعجب من بني قومه. فهو عندما يذهب للمجلس حيث شيخ العقل او من يمثله.. فإنه بعد موعظته يأمر "الجهال" بالانصراف حتى لا يتبقى لديه سوى مجموعة صغيرة ممن نذروا انفسهم للطائفة. لقد درس في مدارس سورية حيث لا تعليم سوى لدين الاسلام وهو يقرأ القرآن ويجد الوضوح فيه وفي تعاليم الدين الاسلامي.. إلا أنه يجهل تفاصيل ما في كتاب الحكمة، وهو كتاب الموحدين الدروز. إنه يعرف تعاليم عامة، ولكنه لم يطلع على ذلك الكتاب.. فهو مازال يعتبر من الجهال رغم انه ناهز الثلاثين عاما!! لا توجد مساجد هناك. وعرفت انهم يصومون بالعام يوما واحدا، وهو يوم العيد الاكبر "يوم النحر".. إلا ان ثمة تفاصيل لم يكن من السهل الاطلاع عليها في عالم محكوم بالسرية ويحاط بكثير من الباطنية والغموض. فالتعاليم التي يدعو لها شيوخ الطائفة جمهورهم العام، تنهى عن شرب الخمر وتدخين التبغ ومعاشرة النساء خارج الزواج. والتدين مراتب تبدأ من نبذ تلك المحرمات ومجانبتها، وارتداء السروال الاسود والقميص الابيض والطاقية البيضاء على رأس محلوق تماما.. وتعلو تلك المراتب باجتهاد الدارس في المجلس، حتى يصل إلى مرحلة يمده الشيخ بمشط كناية عن الاستعداد لإطلاق لحيته.. حيث يكون قد وصل الى مرتبة متقدمة في التحصيل والانضباط.. وإذا ما ابدى قدرة مميزة على خدمة هذه العقيدة فربما يصل يوما الى مرتبة شيخ المجلس. سحابة يوم وليلة قضيتها هناك في قرية على سفح السويداء.. اتجول في دروبها الصغيرة، واتأمل هذا التاريخ الذي صنع عالما مغلقا من جهة، أشد الانغلاق.. وودودا وكريما من جهة أخرى.. إنه عالم الطائفة الصغيرة التي لا تملك سوى الانغلاق والحذر من الغريب لتحافظ على بقائها.