كنا وإلى وقت قريب نهرب إلى الرياضة ومباريات كرة القدم كلما ضقنا ذرعا بما يجري من حولنا من أحداث، أو سئمنا من النفخ في قربة خدماتنا المثقوبة مع كل ما يُنفق عليها من أموال، كنا نستخدم الرياضة كغسول لقلوبنا من تلك التشوهات التي أعطبتها، لنجد شيئا من المتعة والتسلية في فنون هذه اللعبة الجماهيرية ومنافساتها، ولا أعتقد أن من بيننا من كان يعتقد أن جرثومة التعصب للرأي الواحد، ستصل إلى اللون الواحد، لتفرز لنا بالنتيجة عوضا عن الفرق الرياضية قبائل رياضية، لا همّ لكل قبيلة سوى استعراض أمجادها، والنيل من القبائل الأخرى أو التشكيك في انتصاراتها، على طريقة كل حزب بما لديهم فرحون، رغم أن بعض المعلقين في تلك المرحلة المبكرة كانوا، وبدون وعي يؤثثون الوسط الرياضي لبلوغ هذه الدرجة من التعصب، حينما كانوا يُصرّون على المبادلة في التقديم والتأخير عند ذكر أسماء الفرق المتنافسة كالإشارة إلى أن هذه المباراة بين (الهلال والنصر أو النصر والهلال) أو بين (الاتحاد والأهلي أو الأهلي والاتحاد) حتى إنه لو وسعهم اللفظ نطقا لذكر الاسمين معا لفعلوا، وكأنهم يتحللون من تبعةٍ سيترتب عليها انقلاب الكون أو تصادم المجرات. مرّت الأيام، وكأن هذه العبارة ليستْ أكثر من عبارة استرضاء لأولئك المتشنجين القلة في المدرجات، ولم يتنبه أحد إلى أنها كانت تؤسس أو تستعيد تلك الفكرة الشوفينية (لنا الصدر بين العالمين أو القبر)، وتوغر في النفوس نزعة الاستبداد بالأولوية التي يُفترض أن تُحددها نتيجة المباراة وليس أي شيء آخر، ليدخل هذا الوسط مع توسع الإعلام الرياضي، ودخول الإعلام الجديد على الخط، وارتفاع سقف حريته، ثم اقتحامه من قبل عناصر لا علاقة لها بالرياضة من الأكاديميين والتجار والباحثين عن الأضواء للأضواء أو لمآرب شخصية، ليدخل هذا الوسط إلى مستنقع آسن من التعصب، تجمعت فيه كل أوساخ أحذية الخائضين فيه من غير أهله، وممن استطاعوا أن يجدوا في أقنية الفضاء، وأعمدة الصحف ما يؤمّن لهم مقاعد وثيرة في أعين المتابعين من بعد انتهاء المباريات وإلى أن يصرفهم الفجر، ليقولوا في المباراة وعنها ما لم يحدث فيها، ولم يره الناس، فقط ليعززوا انتصار فرقهم، أو ليرفعوا عن كاهلها ثقل الهزيمة، وكل ذلك باستخدام لغة ومصطلحات الحروب، ما جر إلى ساحتنا المحلية قنوات ووسائل إعلام ما كانت لتجد من يشاهدها فضلا عن أن يدفع فيها قيمة إعلان لتستثمر في هذا المناخ القبلي العاصف الذي يسمح بكل ما لا تسمح به قوانين اللعبة من السب والشتم والرفس والركل والقدح والذم، وغيرها مما أصبح هو للأسف أبرز مسوغات البطولة. وكان من الطبيعي أمام غياب الخطوات الجادة التي كان من واجبها أن تعيد الكرة إلى أقدام اللاعبين، وإلى ساحات العشب في الملاعب، وأن تمنع استخدامها كحصان طروادة في الاستديوهات لتباري المفلسين في قبح وقيح الكلام، كان من الطبيعي أن تتردد أصداء العنصرية في المدرجات، وأن يظهر لاعب منتخب سابق (لاعب دولي) على وسائل الإعلام، ليقول بأنه يتمنى هزيمة فريق وطني يقابل فريقا أجنبيا باسم الوطن، ما يشي فعلا بتغلغل تلك الجرثومة البغيضة إلى الشعور الوطني الذي يُفترض أنه أول من يُقدر قيمته عندما ارتدى قميصه، ومدى خطورة بلوغ داء التعصب إليه، ولا يزال لهذا الداء بقية طالما بقيت هذه الملهاة السمجة التي وجد فيها الإعلام غير المسؤول ضالته في استقطاب الشتامين، ومن ثم المشاهدين كسنارة لاصطياد الإعلان، في سوق مشاع لا جدران ولا أبواب ولا حراس له، ليخطف أبناءنا من مدرجات المتعة إلى مندرجات اللعب بالقيم، وفي طليعتها قيمة الوطنية . أما ما أخشاه فهو أن نفيق ذات يوم، نتيجة ترك الحبل على الغارب لكل العابثين في الوسط الرياضي، لنجد أن كل هذه المؤشرات أقل شأنا مما تلوح نذره .