هل تذكرون أولئك الذين يسمّون أنفسهم (المحتسبين) عندما كانوا (يهجولون) في معرض الكتاب في السنوات الماضية بملابسهم الرثة وأشكالهم البدائية المتوحشة، ويفرضون اجتهاداتهم الدينية المتشدّدة بالقوة فيمنعون هذا الكتاب من أن يباع، ويجعجعون لمنع آخر، لولا أنّ الحكومة تدخلت ومنعتهم لأنهم ليسوا بذوي صفة رسمية، وهم بممارساتهم تلك يفتئتون على سلطة الدولة، فاختفوا مرغمين لا مختارين، هؤلاء القوم أو أشباههم ظهروا هذه الأيام ولكن في مدينة (الموصل) بالعراق حينما احتلها الدواعش، ففرضوا فكرهم الذين حاولوا أن يفرضوه هنا، بزعم أنه التفسير الوحيد والحصري لتعاليم الإسلام هاهم يفرضونه هناك، كما تقول الأنباء القادمة من (جامعة الموصل). فالداعشي لا يؤمن أبدأ بالاختلاف قطعياً، ليس في القضايا العقدية فحسب، وإنما حتى في القضايا الفقهية الاجتهادية أيضاً؛ فهو فرعوني النزعة {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى}! تقول الأنباء : منع الدواعش أول ما منعوا - طبعاً - الاختلاط بين الطلبة والطالبات بشكل تام وقطعي بين طلبة الجامعة، ليس هذا فحسب، وإنما فرضوا النقاب وارتداء القفازات والعباءات السوداء لعضوات هيئة التدريس من النساء ومن يخالف يقع تحت طائلة العقاب.. ومنعوا كذلك كل الأنشطة الرياضية على الجميع، الطلاب والطالبات، لأنها - كما يزعمون - من مؤامرات الكفار الوافدة لإلهاء المسلمين عن دينهم وفرائضه، واستبدلوها بمادة تعليمية أسموها (مادة الجهاد)، وجعلوا من ملاعب الجامعة وقاعاتها المغلقة ساحات لتعليم الطلبة وكذلك أساتذة الجامعة طرق العنف والصراع بالأيدي والعصي، وكذلك استخدام الأسلحة الخفيفة. كما تم شطب مسمّى (وزارة التعليم العالي) وتم استبدالها بمسمّى (ديوان التعليم). كما تقرر أن يكون دوام الطالبات من الساعة 9 صباحاً وحتى الثانية بعد الظهر والطلبة من الساعة الثانية بعد الظهر وحتى الساعة السادسة مساء. كما ألغى الدواعش بعض الكليات وأقسام بعض الكليات من الجامعة وهي (كليات الحقوق، العلوم السياسية، الفنون الجميلة، الآثار، التربية الرياضية، قسم الفلسفة، قسم إدارة المؤسسات السياحية والفندقية) . فقط أبقوا على كلية (الفنون الجميلة) بعد تعديل مناهجها وأسموها (كلية الخط والزخرفة) . كما ألغوا تدريس بعض المواد غير الشرعية مثل الديمقراطية، الثقافة، الحريات والحقوق، الرواية والمسرحية لأقسام اللغة الإنكليزية والفرنسية والترجمة، وألزموا هيئة التدريس بعدم وضع أسئلة خاصة بمبادئ الوطنية؛ أما سبب كل هذه الإلغاءات فلأنها لا تقرها الشريعة الإسلامية كما يزعمون؛ والشريعة هنا وفق اجتهادات الدواعش طبعاً. كما سرحت داعش جميع الطلبة من السكن الداخلي للجامعة، واتخذت المباني التي كانت مخصصة للطلاب ثكنات لجنودها، ويحرس الجامعة أربعمائة عنصر من الدواعش، يقومون بمراقبة تنفيذ تعليمات السلطات الداعشية الجديدة بحزم لا يعرف التراخي أو التسامح، بل ويشاع أنّ أغلب هؤلاء الحراس اختارتهم داعش من أعضائها الأعاجم، غير الناطقين بالعربية الوافدين إليها من خارج العراق، أو كما يسمّونهم (المهاجرين)، والسبب لمنع أي سبيل للتواصل أو الحوار بينهم وبين أساتذة الجامعة وطلابها ؛ فالحوار أو كما يسمّونه (الجدل) ممنوع منعاً باتاً، فليس أمام الجميع إلا الخضوع والتنفيذ فقط، كما هو الفكر (الدوغمائي) الذي تعتبر داعش خير من يمثله في العصر الحاضر. بقي أن أقول : لا خلاف أنّ داعش حركة متأسلمة ومتطرّفة في تأسلمها بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، غير أنّ من حسناتها - إذا كان لها من حسنات - أنها جسّدت ما كنا نقوله ونحذّر منه على أرض الواقع؛ فالتطرف إذا استشرى في تفكير الإنسان وتملّك كل معاييره ومقاييسه، يتحوّل إلى أشبه ما يكون بمريض (الإيبولا)، فهذا الوباء يبدأ من مجرّد ملامسة مريض بالفيروس فيلتقط المصاب العدوى وتتطور، لتنتشر في بقية الجسد حتى تقضي على بقية وظائف الجسد الأخرى، وبسببه ينتقل من سطح الأرض إلى جوفها؛ والسؤال : هل من متعظ؟