×
محافظة المنطقة الشرقية

زيدان يساند رونالدو في مواجهة الغضب الجماهيري

صورة الخبر

مرة ثانية حلق طائر الحوم بعيداً، غبّ أن أخذ معه كائناً آخر، كائناً قريباً إلى قلوبنا، لكنّ المصاب - هذه المرّة - كان جللاً، ذلك أنّه استهدف هرماً ثقافياً، شكّل - ولوقت طويل - معلماً من معالم الثقافة المصرية، بله العربية كلها! في الرابع عشر من أكتوبر/تشرين الأول - إذاً - فقد المشهد الثقافي والإعلاميّ - المرئيّ والمسموع والمقروء - على امتداد الوطن العربي أحد رموزه البارزة، إذ أسلم الشاعر فاروق شوشة - ابن دمياط البار - روحه للملأ الأعلى، إثر رحلة ممتدة في عالم الشعر واللغة والإعلام واللحن، لنقف بالخبر ملجومين عاجزين عن الفهم، إذ ما الذي يعنيه رحيل شاعر على هذا النحو الفاجعيّ المرمد والمرمض!؟ تساءلنا. ولكن ألسنا جميعاً كائنات برسم الموت، الموت بمعناه الماديّ الكثيف واللزج إذ يحضر فلا نملك دفعاً له!؟ وفي التوّ ارتحلت الذاكرة نحو أخيلة عزيزة ونائية، إذاك كنت أحبو من عالم الطفولة إلى خانة الشباب، هل كنت بصدد الانتقال من المرحلة الابتدائية إلى المرحلة الإعدادية!؟ ما كان عمري قد تجاوز الاثني عشر عاماً بأيّ حال، وبمحض صدفة توقفت بوصلة المذياع ببرنامج "لغتنا الجميلة"! كان ذاك عام 1967، وكانت تلك بداية علاقة غريبة وملغزة ربطتني بالشاعر الأستاذ فاروق شوشة، كيف!؟ ولماذا وسمت تلك العلاقة بالغرابة!؟ قد تلتمسون لي العذر حين أحيطكم علماً بأنّني لم ألتق الرجل أبداً، حتى حين قيّض لي أن أزور قاهرة المعزّ فيما بعد، فأجلس إلى الحسين، وأُعْمِلَ الفكر في عبارة أثيثة كان الأشقاء المصريّون يردّدونها كلّ حين، أنّ " مصر - دي - أمّ الدنيا "، ثمّ أؤمّن عليها في تسليم، نعم لقد أحسست - وعلى نحو غريب - بأنّ مصر - المحروسة - هي - فعلاً - أم الدنيا! أقول حتى في زيارتي اليتيمة تلك، لم أعط الفرصة للقاء الأستاذ شوشة بسبب من غيابه خارج مصر حينها فيما أتوهّم، لست بصدد علاقة عشق نشأت بيني وبين القاهرة، ذلك أنّنا نقف - الآن - في مقام مختلف، إلاّ أنّني قد أشير إلى الكيفية التي احتفظت فيها بالجنيهات التي عادت معي من مصر، وذلك حتى تتاح لي زيارة أخرى اعتبرتها محتمة، زيارة منّيت النفس بها طويلاً، وقد أشير إلى شعور عميق بالامتنان للأستاذ بهي الدين حسن، ذلك أنّني كنت بضيافة مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، الذي كان الحسن يديره، ذلك أنّني التقيت قامات لا تنسى كالدكتور جمال البنا.. المخرج هاشم النحاس، حافظ أبو سعدة، والصديق الشاعر حلمي سالم، الذي كان على علاقة عمل بمركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، والذي جاء متأبطاً الشاعرة فاطمة ناعوت ذات مرة.. حتى راجي صوراني رئيس لجنة حقوق الإنسان في غزة حضر، فأسعدني الحظ بلقائه! هل كانت حرفة الكتابة - التي ستدركني لاحقاً - سبباً في إدماني لبرنامج الأستاذ شوشة ذاك!؟ حيثما توضّعت الإجابة، فإنّها ستقرّ بأنّني كنت في حضرة إعلاميّ ولغويّ فذّ، وها هي الأيام تتصرّم، فتتغيّر معها أدوات الاتصال والتواصل، ويرهننا جهاز التلفاز الصغير إلى عالمه الملغز، ناهيك عن الشابكة العالمية بأساليب اتصالها التي لا تعدّ، بيد أنّ صوت الأستاذ شوشة ما يزال ينساب في أذني عذباً رقراقاً وأليفاً في تواتر، فيكشف لي ما استغلق على فهمي في فقه اللغة أو أدواتها أو قواعدها، ويحبّب إليّ عالماً ارتبطت به بحبل سرّة لا ينفصم عراها! فهل أدرك الرجل أهمية جهاز كالتلفاز وخطورته، حيث تتضافر الصورة مع الصوت؟ وفي الإجابة سيفاجئنا الأستاذ شوشة ببرنامجه الشائق "أمسية ثقافية"، الذي أطلقه للمشاهدين عام 1977، فيؤكّد ثانية أنّنا أمام إعلاميّ فذّ، ومثقف عضويّ اندغم بجمهوره العريض بحسب غرامشي! قد يبدو نافلاً عن القول الإشارة إلى أنّ الأستاذ شوشة كان عضو مجمع اللغة العربية في مصر، لكنّنا إذ نشير إلى عضويته في لجنة الشعر بالمجلس الأعلى للثقافة، إنّما نروم تسليط الضوء على رجل موسوعيّ، في الوقت الذي راحت العلوم والآداب فيه تنحو نحو اختصاصات جدّ دقيقة وجزئية، على هذا فنحن أمام قامة أثرت المشهد الثقافيّ المصريّ، بل تجاوزته إلى الساحة العربية، ولعلنا ندلّل على قولتنا هذه بزاويته في العربي الكويتية.. الواسعة الانتشار! ثمّ ها هو يحتلّ موقع رئيس لجنة المؤلفين والملحّنين في مصر، ما يدلّل أكثر على مكانته في المشهد الثقافي بمصر! ومن "إلى مسافرة" 1966، إلى "الجميلة تنزل إلى النهر" 2002 سيتحفنا الأستاذ شوشة بثلاثة عشر ديواناً شعرياً، إلى جانب كتابه اللغوي، الذي اتكأ إلى برنامجه الشهير "لغتنا الجميلة"، فجاء على العنوان ذاته، ثمّ طالعنا بكتابه " أحلى 20 قصيدة حب في الشعر العربيّ"، ليختتم رحلته في عالم اللغة والأدب والإعلام والنغم بـ "عذابات العمر الجميل" في صورة سيرة شعرية، تناول فيها حياته وفضاءاته المختلفة! فهل ثمّة حاجة بعد للوقوف بمفاصل من سيرة ثرّة، قضاها الرجل في محراب الكلمة راية وسفينا!؟ لن نشير إلى الجوائز العديدة التي تحصّل عليها الأستاذ شوشة.. محلية وعربية، لكنّنا سنذكّر بأنّه تحصّل على جائزة النيل لعام 2016، وهي أعلى وسام تمنحه جمهورية مصر العربية لمبدعيها. على هذا فلا نظننا مجانبين الصواب، إذا زعمنا بأنّ جيلاً بعينه سيجد عناءً في التكيّف مع فكرة رحيل الأستاذ شوشة، لهذا سيقضي الكثير من الأشقاء المصريين والعرب وقتاً غير قصير في رثاء هرم آخر من اهرامات مصر. سلاماً فاروق شوشة، سلاماً إلى مسافرة على أمل الوصول، وسلاماً إلى جميلة نزلت النهر على يديك، سلاماً لأسطورة تأسّست على عذابات العمر الجميل، وسلاماً لحلم في انتظار ما لا يجيء. سلاماً عليك يوم ولدت، وسلاماً عليك يوم تبعث حياً. روائي وقاص وناقد سوري