×
محافظة المنطقة الشرقية

جامعة الأمير محمد بن فهد تصدر «المها» باللغة الإنجليزية

صورة الخبر

كلنا يسترجع ذكرياته بين الحين والآخر، يتذكر الجميل منها لما تضفيه من سعادة وراحة للنفس، ولعلي أصور في هذه المقالة كيف كان مجتمع الخبر في الستينيات الميلادية من القرن الماضي مجتمعاً متحضراً رغم بساطة الحياة. كنا نقيم في دولة الكويت، وفي كل إجازة مدرسية تصطحبنا والدتي لزيارة بيت جدي سعد بن محمد النصار يرحمه الله في الخبر، وفي كل زيارة نتمنى البقاء ولا نعود إلى الغربة مرة أخرى. كنا في كل زيارة نلمس تغيرات متنامية ليس في البيئة العمرانية فحسب، وإنما حتى في الحياة الاجتماعية. كان بيت جدي يقع على شارع الأمير سعد شرق حديقة البلدية، حديقة القلعة حالياً. امتاز البيت بتصميم حضاري من الداخل والخارج، امتزج بفن عمارة شرقي وغربي، وضع فيه جدي يرحمه الله حسه الهندسي على الرغم من أنه لم يكن يقرأ ولا يكتب، ولكنه كان يمتلك عقلية فذة. كانت واجهته الغربية تطل على الشارع مباشرة دون وجود سور، خصص الجزء الأمامي للبيت لاستقبال الضيوف، أما اجتماع العائلة والنوم فكان خلف البيت. كان دهان الجدران من الداخل باللون الكريمي الفاتح المبهج للنفس، أما بلاط الأرضيات فكان مزخرفاً بالورد الملون المتأثر بالطابع الهندي. كان الفناء يحيط بالبيت من ثلاث جهات، وكان للبيت ثلاثة مداخل: مدخل رئيس في الوسط، تميز ببابه البني ذي التقسيمات الهندسية الجميلة، ومدخلان جانبيان أحدهما مخصص للنساء والآخر للديوانية. كان المدخل الرئيس يؤدي إلى مكتب ومجلس مؤثث بكنب وطاولات، وبالقرب منه حمام للرجال ومخرج للديوانية، وتتبع مجلس الرجال غرفة طعام بها طاولة وكراسي، كان بها مدخلان أحدهما يؤدي إلى مجلس النساء والمطبخ، والآخر يؤدي إلى مجلس الرجال. يتصل المدخل بدهليز طويل يوجد به مجلس للنساء، ومطبخ وحمامان أحدهما للاستحمام فقط، ومغسلة، ودرج يؤدي إلى السطح، ومخرج إلى الفناء الجنوبي، حيث توجد بمحاذاة السور مظلة (عريش) مخصصة لغسل الملابس، وينتهي الدهليز بصالة البيت (غرفة المعيشة)، كانت الصالة واسعة «شرحة» يتوسطها عمود، وكانت محاطة بكنب وتليفزيون وطاولة طعام للوجبات اليومية، ومروحة عمودية، كانت ماكينة خياطة جدتي في إحدى الزوايا وهي من النوع الذي يتم فيه تحريك إبرتها بالقدمين، كما كان في الصالة هاتف (أبو هندل) يتم فيه الاتصال عبر بدالة وليس بشكل مباشر، تطل على الصالة أربع غرف للنوم. كان في الصالة مخرج يؤدي إلى الفناء الشرقي، وكان الفناء واسعاً تنتشر فيه أشجار اللوز والكافور العالية، تتوسطه بركة سباحة صغيرة، أما في ناحيته الجنوبية الشرقية فتوجد حظيرة صغيرة للحيوانات. أتذكر في الزيارات الأولى كيف كنا نتسلق شجرة اللوز لنجلس على سور البيت الشرقي ونستمتع بمراقبة موج البحر وهو يلامس بحنان سور البيت أثناء حالة المد، ثم أخذ ذلك المنظر في الانحسار مع مشاريع البلدية السنوية لدفن الساحل وإبعاده عن المدينة. كانت الكهرباء تنقطع في الخبر، وعند انقطاعها في الظهيرة كنا نخرج إلى الفناء الشرقي لتناول الغداء والتبرد تحت ظل الأشجار، أما عند تعطلها في الليل فكان جدي يرحمه الله يوجهنا للنوم في السطح. كانت السماء صافية في ليالي الخبر، كنا نتناقش في تخيل ملامح القمر، وعد النجوم ومتابعة حركة الأجسام السماوية والطائرات. كانت إحدى خالاتي تمتاز بسرد القصص، وعندما تزداد شقاوتنا في الليل تحفزنا للذهاب إلى النوم لسماع قصة جديدة، كنا نتسابق للظفر بالمكان القريب منها، وما أن تبدأ بـ «كان يا ما كان»، حتى يكون معظمنا في خبر كان. تعرفت من بيت جدي في تلك الفترة على مجلات الأطفال (ميكي وسمير وبطوط) كنت أحب صور الشخصيات الكارتونية فيها، لكنني لم أكن أستطيع قراءتها لأنها كانت مكتوبة باللهجة المصرية. كانت العائلة تجتمع في بيت جدي رجالا ونساءً، وعند رغبة أية امرأة في محادثة بعض أفراد الأسرة من غير المحارم تحجب جانب وجهها المقابل لهم. كان مجتمع الخبر ومنهم بيت جدي يعتمدون في وجباتهم اليومية على الخضار الطازجة التي تصل إلى المنازل عبر بائعين متجولين، ففي كل صباح كان بائع الخضراوات يمر أمام المنازل ويسوق لبضاعته بصوت عالٍ، كانت عربته منخفضة طويلة تتوسطها عجلتان وتنتهي بمقبض للدفع، كان يدفعها بقوة للحركة في شارع الأمير سعد، الذي كان رمليا حتى نهاية الستينيات، وعندما تسمع جدتي يرحمها الله نداء البائع تسرع ناحية الباب لتوقفه، كانت جدتي تنظر إلى الخضراوات من خلف الباب أو تقوم بإرسال أحدنا ليطلعها على جودة البضاعة، وبعد أن تختار ما تريد، يقوم البائع بوزنه وأخذ نقوده، كان البائعون من المواطنين يراعون حرمة المنازل. كانت نهاية العام الدراسي موعداً لإعلان أسماء الناجحين عبر المذياع، كان المذيع يذكر الاسم أو رقم الجلوس أو كلاهما معاً، وعند سماع الاسم كانت مشاعر الفرحة تعم البيت فعند ذكر اسم أحد أخوالي يسارع لتقبيل رأس جدي وجدتي، أما إن كانت الناجحة إحدى خالاتي فكانت دموعها تسبقها من شدة الفرح وتذهب لحضن جدتي وجدي وبقية أفراد الأسرة. كان للتلفزيون أثر واضح في الحياة الاجتماعية لسكان الخبر، فقد كان تليفزيون أرامكو في بداية الستينيات يعرض أحدث البرامج والمسلسلات والأفلام الأمريكية وأفلام الكرتون مدبلجة باللغة العربية، ومع السبعينيات استبدلت الدبلجة بالترجمة أسفل الشاشة، وإلى جانب تليفزيون أرامكو كنا نتابع تليفزيون الكويت عندما تكون السماء صافية. كان البث في القناة السعودية يتوقف نصف ساعة بعد أذاني المغرب والعشاء، كان ذلك التوقف يساعد على القيام بعديد من الأعمال المنزلية السريعة إلى جانب أداء الصلاة. كنا نفرح للذهاب إلى مطار الظهران ونعده من الأماكن السياحية، كانت صالة استقبال المطار تحفة جمالية بما تزدان به من أقواس الطراز الإسلامي، كنا نراقب بذهول من خلف شبك المدرج حركة إقلاع وهبوط الطائرات. كانت عودة أحد أخوالي لقضاء إجازته الصيفية في الخبر حدثا مهما، كنا في الأيام الأولى من زيارته نشنف آذاننا لسماع ما يقوله عن تطور الحياة والمجتمع الأمريكي، كنا نتسابق للاقتراب منه وكسب وده واهتمامه. كانت منتجات أرامكو من الحلويات والآيسكريم شهية جدا، يحرص على شرائها من تسنح له الفرصة دخول منطقة أرامكو، كانت تلك الحلويات من أساليب الترهيب والترغيب لنا للامتثال إلى التوجيهات. كان أذان المغرب في الخبر يمثل فترة الهدوء والعودة إلى المنزل، فقد كانت الإضاءة في الطرقات ضعيفة وقليلة. كانت الحياة الاجتماعية بين سكان الخبر متآلفة، كانوا جميعاً كأسرة واحدة، فكانت العائلات تخرج في ليالي الصيف المقمرة إلى ساحلي (العزيزية أو الكظوم) للسباحة والسمر، أما في فصل الربيع أو الشتاء فقد كانت الطعوس (النفوذ) متعة الجميع. كم كانت حلوة تلك الأيام في خبر الخير.