في كلِّ مدينة، قرية، أو بقعة صغيرة من الوجود الإِنساني، هناك ما يبقى في المكان كذاكرة يصنعها البشر لا الحجر. وكلما زرت مكانًا جديدًا هنا أو هناك، أحاول أن أبحث فيه عمَّا يشبه ذاكرتي أو يتماهى معها، فإذا وجدتها أحببت هذا المكان وتآلفت معه نفسي. وإن لم أشعر ولو بجزء صغير منها لم أعد لهذا المكان، ولو عدت له مرة أخرى مكرها فسوف أتعامل معه كالغريب الذي يحل في بلد لحاجة يتعجلها، ثمَّ يمضي لحال سبيله! أقول ذلك من تجارب سفر، أعد لها عينا تقرأ تاريخ المكان، وهذا ما يفسر لي لماذا فلان من الناس يعشق مدينة ما في حين أن صديقه الآخر الذي ينتمي لنفس البيئة والثقافة يكره هذه المدينة ولا يشعر ناحيتها بأي انجذاب؟ ذاكرة المكان لا تعني الجمال الاعتيادي فقط، فهذه ذاكرة بصرية تستمتع بالرؤية دون أن تنتبه لإرث المكان وتاريخه. هذه الذاكرة بالذات تتذوق كل شيء، لكنها تحب المكان أو تكرهه بحسب ما تراه بعينها فقط! وعلى هذا الأساس فمدينة مثل القاهرة متعبة لمن يَرَى المكان بعينه بسبب التلوث الزحام.. الخ. فيما تبدو الرياض جميلة للبصر لكنها تمحى ذاكرتها القديمه، ولولا الحفاظ على منطقة وسط البلد، ليظن الزائر للرياض أن عمرها بالوجود صغير جدًا! ذاكرة المكان كما أراها هي أن تشعر بوجود هذا المكان كأنك تراه في وجوده الأولي لا في لحظتك الآنية. أن تتأمل المكان بأهله وثقافته وجمالياته في زمنه دون أن تسقط في فخ المقارنات بين ما كان وبين ما هو كائن! أتذكر زيارة قديمة لمدينة فينا. كنت أتجوَّل في طرقها بعين مفتوحة ومتعطشة لما أنجزه البشر في هذا المكان. كل ما حولي يستنطق التاريخ، فيحضر المكان شاهدًا له بالناس الذين مروا وكأنهم لم يمروا، وعمروا هذه الأرض لتبقى ضد النسيان! تكرر هذا الأمر معي في أماكن أخرى، وشعرت بها هنا في بلدتي «روضة سدير» وتحديدًا في البلدة القديمة التي لا تزال لها بقايا، رغم الخراب الذي طال كثيرًا من عمرانها. وهذا ينطبق على كثير من البلدات القديمة في كلِّ جزء من بلادنا. التفاصيل الصغيرة التي تحكيها عمارة هذه البلدات عميقة وذات مغزى، أهمها هو: الجمال في خدمة العمران، لبناء ما يحتاجه الإنسان لا ما يتباهى به. جمالية العمارة هنا في التفاصيل الدقيقة التي تكشف عن حياة الإنسان في ذلك الوقت. هذه التفاصيل لا تراها بعينيك المجردتين، تحتاج لأن تقرأ قبل أن تتذوق جمال المكان!