جلست معه فشكا لي من ضعف قدرات أبناء هذا الجيل من الناشئة في الفهم والحفظ ومعرفة أساس المعلومات. كان يشتكي من ابنه، وهو على وشك الدخول للجامعة، والآخر ذهب بالفعل للدراسة في أميركا، يقول: الذي في أميركا، لا بأس به، مجتهد ويحفظ، لكن ليس لديه اللمعان والاستيعاب الكافي، أما الآخر الذي على وشك الدخول للحياة الجامعية، فهو في عالم آخر، أتحدث معه وهو يعطيني وجهه، ولكنه وجه من بلاستيك، فداخل عقله خواء، ولا صلة له بأوليات العلوم التي كانت من بدهيات المعارف لدينا في جيلنا، مثل أبسط العمليات الحسابية، وجدول الضرب، ومعلومات التاريخ الإسلامي والعربي العامة، بل حينما سألته - والحديث ما زال للأب - عن الحربين العالميتين الأولى والثانية، فغر فاه، واندهش. هذه الشكوى، تتكرر كثيرا من آباء وأمهات، وأساتذة جامعات، هناك فقر مدقع وجهل عميم، وهشاشة واضحة لدى غالب هذا الجيل، من أبناء السن الجامعية، والجهل هو أكبر بوابة يلج منها التعصب والاستغفال. قديما قيل: ما يبلغ الأعداء من جاهل - ما يبلغ الجاهل من نفسه. العلم، بشقيه التجريدي الإنساني، والعملي المادي، يكون بالحفظ والفهم والملاحظة والتجريب، ودون امتلاك هذه المهارات، وتكوين هذه الكفايات، لا تنتظر إنسانا يحمل مصباح العلم في ديجور الجهل. الأنكى أن أجهزة الهواتف الذكية، واللوحية، مثل آيباد وغيره، أكسبت الناشئة المراهقة وهم المعرفة، وتخيل أنه بمجرد نقره على زر البحث في غوغل أو يوتيوب، قد حصل على المعرفة، أتذكر في مشهد سوريالي طفلا في الرابعة الابتدائية أراد أن يبهر أمه بالشعر فنقر على كلمة شعر في غوغل وخرجت له أبيات للشاعر الثوري أحمد مطر وطفق يلقي القصيدة، طبعا لا علاقة لهذا الطفل بتقنيات قراءة الشعر، ولذلك لخبط لخابيط وشخبط شخابيط، والله يحفظ لهم غوغل! على ذكر الحفظ وقوته وأهميته، مع الفهم والدرس طبعا، تذكر كتب التاريخ أن العلامة الأصمعي، كان أعجوبة العرب في الحفظ، ولكن كان هناك من يحفظ مثله، وتميز هو كما قال لمن سأله، بأنه حفظ ودرس وذاكر ما حفظه. وفي الزمن القريب نقرأ عن أصمعي آخر كان بين أهل عصرنا، وهو (عبد الله العجيري) راوية العرب، في زمانه، وأحد الذين رزقوا ذاكرة وحافظة يندر وجودها. ذكر مستشار الملك عبد العزيز السيد (يوسف ياسين) أن العجيري كان يحفظ القرآن وجانبا من كتب الحديث لا سيما غالب مسند الإمام أحمد، وكتبا كثيرة، منها البيان والتبيين للجاحظ، والآداب الشرعية لابن مفلح، وأغلب كتاب الأغاني، ودواوين شعر كثيرة بكاملها، وذكر أنه كلما أراد أن يحفظ شيئا كتبه فانطبع في ذهنه وحفظه مرة واحدة، وذكر قريبا من ذلك الأديب والمؤرخ اللبناني أمين الريحاني، وهو أحد أصدقاء الملك عبد العزيز. (من كتاب الباحث السعودي سليمان الحديثي، عن سيرة الأمير عبد الله بن عبد الرحمن. جداول ص 97). علموا أولادكم، لا تدعوا الآلات تفترسهم. نقلا عن الشرق الاوسط