×
محافظة المنطقة الشرقية

طوروا الخدمات في مطار الملك عبد العزيز في جدة

صورة الخبر

رواية الإماراتية سعاد العريمي "دريب الغاويات" دار الساقي لا تغري صورة غلافها بقراءة جادة، رغم أن صاحبتها أكاديمية ودبلوماسية، ولكن القارىء يكتشف أنها من بين الأعمال التي تضع علامات وضوح على لغز الإمارات، تلك الصحارى المنسية التي غدت مراكز عالمية مرموقة. لعلنا ندرك من خلال هذه الرواية جوانب مهمة في تركيبة النسيج الاجتماعي الحديث للإمارات، حيث يربط جسوره بالعواصم الكبرى، وحيث الطموح إلى التحديث يجري دون ضجيج ومكابدات كما حصل في بقية البلدان العربية. الرواية تبدأ وتنتهي بقصة حب رومانسي، ولكنها من خلال هذه القصة تحاول منحنا فرصة الدخول الى سايكولوجيا المجتمعات التي تقف بين زمنين متباعدين، زمن العواصم الكوزموبوليتية وزمن الحارة الشرقية، زمن الربع الخالي التي ضاعت فيه نداءات المحبين وانشدت قصائد الحب العذري، وزمن اللقاءات السريعة في رحلة طيران قصيرة. يقع دريب الغاويات في حارة الشريعة في واحة العين، في إمارة أبو ظبي، كما يحدد جغرافية المكان صوت ساردة الرواية صبحا بنت الريح، ولكن هذا المكان غدا ذكرى يردد صداها منلوج البطلة وهي تزور حيها بعد عودتها من الغرب. صبحا بنت الريح تغيرت وهي تحمل شهادة الدكتوراه من جامعة عالمية، مثلما انقطع السبيل بها بعد أن تبدل المكان نفسه: "لم يعد الدرب هو الدريب الذي ورثت خصائصه وترعرعت في وسطه، بل تبدّل وأصبح لا يتطابق مع الصورة التي رسمتها لي أمي سلامة ولا مع الصورة التي أدركتها أنا نفسي. وجدته وقد اتخذ لنفسه وجهاً جديداً يشبه محيطه الحديث، ولم أجزع وأنا المدركة تماماً أن كل شيء قابل للتغيّر" هذه العبارات تلخص خطاب الرواية حيث البطلة التي تقضي فترة طويلة في بريطانيا للدراسة، وضعت قواعد لحياتها تمتد بجذورها إلى عادات التواصل البدوية. "ابنة الربع الخالي" كما يحلو لها أن تسمي نفسها، ترى الأشياء بمنظار أمها التي حبلت بها من رجل اسمه الريح، وقد جاء مثل الريح من الصحراء وذهب إليها ولم يعد. ومع أنّها وحيدة أمها غير ان اخوتها واخواتها بالرضاعة يشكلون مجتمعاً يعكس مرايا المجتمع الكبير، بعادات التواد والتراحم فيه، فقد كانت تعيش في بيت خالها الذي تحوّل راعيها بعد رحيل الأب ووفاة الأم، ولكنها ترى نسبها الروحي يمتد خارج هذه العائلة. وصية والدتها بالزواج من ابن خالها راشد ستكون جزءاً من الحبكة الأساسية للرواية، إذ تبقى البطلة رغم شعورها بالاخوة الغامرة لراشد، متعلقة بتنفيذ هذه المهمة، حتى بعد ارتباطها بعلاقة حب مع زميل دراستها في الغربة، ووفاة راشد عندما سقطت طائرته في البحر. الحب سيكون امتداداً لحياتها في بلدها، فهو أقرب إلى قصة قيس بن الملوح، وإن كانت هي تقوم بدور الممتنع عن السعادة أو المؤجل للوصال، وهي بهذا تتماهى مع دورها كقادمة من ثقافة الربع الخالي، لا من ثقافة طالبة الدكتوراه في كمبردج. هناك ثلاثة محاور تحاول الرواية مقاربتها: المكان، التقاليد، التحديث، فالمكان الذي يتصل بالصحراء وسواقي الماء التي تغمر واحاته، ويمتد بعاداته الى ما يحمله أناسه وهم يعيشون في الغرب: الزي الصحراوي، القيم والأمزجة وردود الافعال، كل تلك المكونات لا تشكل عوائق في نسج علاقة جادة مع العالم الحديث من خلال ناظم أساسي وهو العلم. ومع أن صبحا بنت الريح تعاني الكثير في البداية من نفور المدن الغربية "استقبلتني المدينة وأحياؤها وشوارعها وأزقتها وحتى سلالمها الداخلية بكثير من الجفاء" ولكنها تستطيع في النهاية أن تجد لها مطرحاً بين أناسها لتواصل حياتها في منظومة علاقات حداثية. ثم التقاليد والعادات، فالبطلة تتبع الأثر الصحراوي في علاقة الحب، كما تصبح العائلة الكبيرة التي تمتد وتتتشعب، مكانها الأليف عندما تعود إلى البلد، فتتحرك في محيط عائلي يعكس طبيعة المجتمع الإماراتي نفسه، حيث الاخوة يختلفون في نظرتهم إلى حرية اختهم، وحيث تصبح مصائر الصغار والكبار مرهونة بالتحصيل العلمي في الغرب، ومجتمع الفرص والثروة والحياة التي تمضي في خط صاعد دون ارتكاسات أو خضات. لن نجد في هذه الرواية مشكلات ثقافية تتعلق بالمجتمعات المحلية الانتقالية، ولكن ما يقف معادلا لها هو فكرة الحنين إلى الزمن القديم ومحاولة التشبث بقيمه. فالبطلة لا تقدم كشف حساب بخسائرها، فهي على درجة من القناعة ما يجعلها في رحلة متواصلة داخلها، من ترديدها وحبيبها أشعار الحلاج، إلى ربطها كل جمال تصادفه في الغرب بشيفرات عن طقس بلادها ومرابع طفولتها. تكتشف أن ما يضنيها ليس هو ما يقع خارجها، بل ما يختزن داخلها، وعندما يبدي أخوها "المر" عجبه عند رفضها الزواج من حبيبها مع أنها تذهب إلى مزرعته، تقول لنفسها: "جرحتني عبارة المر، لقد جردني من إنسانيتي وحصرني في خانة العيب، لم يضع لي أي اعتبار، ولكن عندما تعمقت في دواخل نفسي وجدت أن الخوف والشعور بالعيب يسكناني أنا أكثر من المر". تشكّل قصة الحب في الرواية ناظم النص، أو قلب الحبكة التي لا تكتمل الحوادث من دونها، رغم ما تنوء به هذه الحكاية من حمولة ميلودامية فائضة، وما تبدو عليه من تزويق يفيض عن سياق الظروف التي وضعها فيها السرد. ومقابل الحب هناك الجمال أو مظهر البطلة التي تجرح بجمالها، أو لعلها كما تقول أمها "جنية تسبي الطير" والبطل الرقيق الرومانسي ينتظر موافقتها على الزواج حتى ولو أُصيب بخيبات من مزاجها المتقلب. ولكن خطاب الحب هنا يبدو وكأنه ملفوظ أرادت به المؤلفة الإعراب عن خصوصية المكان، فالبطلة تقول حين تصف العلاقة بحبيبها "تذكرت كلام جارتي ماري عندما قالت إن نساء الربع الخالي يتمتعن بطاقة عشق تصل إلى حد الكلف وقتل المحبوب شوقاً". بمقدورنا أيضاً أن نحيل هذا النوع من اللهج في لغة الرواية، لا إلى فولكلور الربع الخالي وحده، بل إلى تاريخ قريب استغرق جهد الروائيات العربيات وقلل من منسوب واقعية وعملية رواياتهن، فبطلاتهن يملكن المواصفات ذاتها التي تملكها بطلة سعاد العريمي، حيث الجمال الجسدي والروحي للمرأة وقوة حضورها وسطوتها على قلب العاشق، دليل القراء إلى سعادة مؤجلة في مجتمعاتهم، منذ غادة السمان حتى أحلام مستغانمي. قلة من الروايات التي تكتبها النساء كانت المرأة فيها ضئيلة الحظ من الجمال أو البطولة الجسدية والروحية. لعل الجانب الرومانسي في رواية "دريب الغاويات" قلل من فرصتها في أن تطرح خارطة أكثر واقعية لفكرة جديرة بالانتباه في مجال اختصاص المؤلفة كأكاديمية، فهي معنية بشؤون الأسرة والمجتمع، ولعل الحكايات التي بجعبتها ستكون دليلها وعدتها في العالم الروائي الذي تثابر على الانتساب إليه.