كم مضى من الزمن على قراءتي لرواية «أربعة صفر» لرجاء عالم. ربما ربع قرن. يومها لم أكن أعرف شيئا عنها. صرت مندهشا من مغامرتها في شكل الرواية التي تحمل العنوان فوق الغلافين كبادرة أولى ثم شخصيات الرواية وتحولاتها وقضاياها المحلقة في أفق أعلى مما حولك من أسئلة. أدركت أنني أمام كاتبة تعرف طريقها وتختاره وتختط لنفسها طريقا وحدها في الرواية العربية رغم ما قد تسببه لك من ارتباك ودهشة. بشكل عام هو طريق التجريب وبشكل خاص هو طريق الكاتبة! قرأت لها مسرحية وأكثر «الرقص على سن الشوكة» و«ثقوب في الظهر»، وكانت دهشتي من ولوجها هذا العالم أيضا الذي يحتاج مسرحا وحركة مسرحية. إنها من البداية ترى المكان أوسع مما حولها. من البداية العالم هو مكانها رغم أن كتاباتها بنت الأرض التي ولدت فيها وعاشت عليها. ومرت السنون وأنا أقرأ لرجاء وأتوقف عند لغتها التي تبدو كثيرا صعبة على القارئ العادي. لكن الكتابة في النهاية ليست اختيارا مائة في المائة، فماذا تفعل إذا كانت الأصوات تهمس داخلك بلغة غير معتادة أو متجاوزة للسرد العادي الذي يحكي بلغة بعيدة عن مشاعر أصحابها يبدو فيها الكاتب حكاء دون أن يسمعه الجمهور! مفسرا لكل شيء دون أن يترك الأحداث تفسر. عرفت كيف تكتب رجاء بعد أن قرأت لها أكثر من رواية في السنوات التالية «خاتم» و«ستر» و«طوق الحمام»، وصارت جوار ما قرأت لروائيين سعوديين مثل يوسف المحيميد وعبده خال وبدرية البشر وغيرهم علامة قوية على الرواية في السعودية رغم وجود الشعر والشعراء المجددين منذ محمد الثبيتي الذين هم أيضا وفي أكثرهم أبناء العصر في التشكيل والبناء. كانت رجاء عالم بالنسبة لي حالة من العزلة. وكنت أسمع أنها تحب ذلك، وكنت أسمع أنها لا تحب حضور المؤتمرات الثقافية. بدا لي الأمر أن العالم الحقيقي لرجاء هو ما تكتبه. وهي في الحقيقة نبتة لعالمين متضادين. فهي ابنة مدينة مكة، ومن ثم تكون الأسئلة في المطلق دائما عن الوجود والنهاية. هؤلاء الناس الذين يأتون كل عام وحدانا وزرافات لم يأتوا إلا لأن العالم لن ينتهي ورحلة الحياة لن تنتهي. فالعالم الآخر ليس انتظارا لكنه حقيقة. وهنا أسئلة الكون والوجود هي الأولى ولا تتزحزح. في الوقت الذي تكون فيه الحياة في مكة مثل غيرها من المدن فيها كل ما يوجد في الحياة اليومية للمدن. هل يمكن أن لا تتشح لغة القص عن مكان كهذا بلغة سرمدية بنت الظاهرة الأكبر. الظاهرة الكونية والفلسفية. ما يبدو صعبا في الحقيقة في السرد هو أقرب إلى السمو فإذا أضفت إليه قراءات في الأدب الإنجليزي وفي الفلسفة والتصوف وأنا لم أسألها عن ذلك في المرتين التي قابلتها فيهما. مرة مضى عليها وقت طويل وكانت بعد روايتها الأولى وجاءت إلى القاهرة ورأيتها مع عدد من الكاتبات المصريات في حالة بهجة، ومرة بعد عشرين عاما في معرض فرانكفورت للكتاب رأيتها شاردة كأنما لا تريد الخروج مما كتبته أو تكتبه. أعرف فقط أنها درست الأدب الإنجليزي، لكن لم أسألها عن الفلسفة والصوفية. لماذا أسالها بعد قراءتها؟ عندما أقرأ في طوق الحمام لشخصية عائشة «أول مراهقتي قرأت أن الألم هو ما يحرق الشوائب ليكشف معدن الذهب فينا» أتذكر على الفور «إن الألم كنز واللب يغدو أكثر نضرة إذا نزعت عنه القشرة» لجلال الدين الرومي. النار لا تحرق لكنها تجلي الروح مما علق بها. ولا تبدو الحياة أبدا مكتملة في أعمالها سواء بسبب القضايا التي يعيشها البشر أو بسبب الحقيقة الكونية. الموت هو انفصال أو بلغتها في رواية «ستر» عن الطينة التي صاغها. لكن هناك حياة أخرى. وتبدو وبشكل جوهري علاقة رجاء بالموسيقى وبالفنون التشكيلية. ولقد قدمت مع أختها الفنانة الكبيرة شادية عالم عملا غير مسبوق يجمع بين النثر والفن التشكيلي هو «جنيات لار» يجعل من لغة الكتابة روحا ومن الصورة ومفرداتها لغة. هما معا في منطقة برزخية تكفيك منها المتعة مع التأمل العميق. كثير جدا يمكن قوله عن أعمال رجاء عالم، لكني هنا أحب أن أقدم لها التحية على فوز روايتها «طوق الحمام» بجائزة الكتاب الألمانية منذ أيام بعد ترجمتها إليها. لقد عرفت الخبر من تويتر من الدكتورة الناقدة الكبيرة لمياء باعشن، فقلت: لا يزال في العالم باب للمسرة. وتذكرت كم استمتعت وكم كنت متضايقا يوما ما؛ لأن رجاء عالم اسم كبير لم يكن يحظى بما تحظى به أسماء أقل. تغير الأمر مع جائزة البوكر التي حصلت عليها مناصفة مع محمد الأشعري وترجمت روايتها إلى الإنجليزية، وها هي إلى الألمانية وربما غيرها عرف الطريق إلى لغات أخرى، ما يشكل ثراء لوضع الأدب العربي في الخارج. وشيء جميل من رجاء يعود إليها.