×
محافظة المنطقة الشرقية

بلاتشي للاعبي النهضة: حان وقت التعويض في «شباك الأهلي»

صورة الخبر

لم يتوقف الجدل حول موضوع الهوية منذ الدعوة لوضع دستور جديد للبلاد في أعقاب ثورة 25 يناير. وعاد الجدل بين الفرقاء السياسيين وأخذ أبعاداً جديدة بعد الإعلان عن تشكيل «لجنة العشرة»، ثم «لجنة الخمسين» لتعديل دستور 2012 وفق «خريطة المستقبل» التي أعلنها وزير الدفاع يوم 3 تموز (يوليو) الماضي. ولا بأس بالجدل الفكري والسياسي في أي موضوع ما دام يجري بشفافية ووفق أسس موضوعية وعقلانية قبل كل شيء. ولكن الجدل الدائر حول هوية مصر وكيف يتم التعبير عنها في الدستور يفتقدان الموضوعية والشفافية معاً. وأكاد أقول إنه لا تتوافر لدى الأطراف المنخرطة فيه رؤية واضحة لمسألة الهوية ومكانتها في الدستور. والسؤال الذي لا جواب عنه حتى الآن بين المتجادلين هو: هل الحفاظ على هوية مصر يكون بمادة أو بمواد عدة في نصوص الدستور؟ أم أن الوضع الصحيح هو أن تكون الهوية المصرية بمكوناتها وروافدها المتنوعة بمثابة روح تسري في جنبات الدستور، وتتغلغل في كل مادة من مواده؟ لستُ مع الذين يتجادلون حول ضرورة وضع أو شطب مادة هنا أو هناك لحسم مسألة الهوية المصرية في التعديلات الدستورية المنتظرة. لأن مثل هذا التوجه يفتح باب الخصومة على مصراعيه، ويغلق باب التوافق بإحكام بين قوى وتيارات سياسية لكل منها مرجعيته وانتماءاته وتفضيلاته الثقافية والاجتماعية والاقتصادية. وإذا اعتمدنا طريقة التعبير عن الهوية في مواد محددة؛ سيكون كل فريق حريصاً على التشبث بصياغات محددة دون غيرها، وسيحرص فريق آخر له مرجعية مختلفة على وجود صياغات أخرى، وربما حذف صياغات الفريق الأول؛ وهكذا سندخل في دوامة ما أسميه التنصل المتبادل وغير الواعي من «الهوية المصرية الجامعة»، وسيتقوقع الجميع والعياذ بالله في نزعات انفصالية ضيقة لا تستقيم معها هوية جامعة ولا تتحقق بها مصلحة عامة. في رأيي أن الهوية المصرية يتعين أن تكون من الدستور بمثابة الروح من الجسد. وفي هذه الحالة فإن كل مادة من مواد الدستور يجب أن تأتي مشبعة ومترعة بمضمون الهوية وحافظة للمشتركات العامة التي تتشكل منها هذه الهوية. إن الوظيفة السياسية للهوية هو أن تكون نواة صلبة تلتقي حولها كل طوائف المجتمع وتتمسك وتدافع عنها كل تكويناته وجماعاته أياً كانت توجهاتها واختياراتها السياسية والفكرية. وأتصور أن من المفيد في سياق الجدل الدائر حول الهوية والمسألة الدستورية أن نوضح معنى الهوية كأصل جامع للمشتركات الوطنية، وكيف نحميها من الوقوع في النزعة الانفصالية المدمرة. الأصل في فقه الهوية هو أن يتمكن الإنسان من تعريف ذاته بذاته لا أن يعرفها بنسبة نفسه إلى شيء خارج عنها. وكمال الهوية هو أن يتحرر المواطن من الضعف، ومن الذل، ومن العوّز ومن الشعور بالخوف أو بالنقص. أن يمتلئ قلبه بالاطمئنان، ونفسه بالسكينة، وضميره بالراحة، وعقله بالحرية، وهذه مشتركات عامة لا يمكن نسبتها لفئة دون أخرى. مع الاحتفاظ بما يميز الذات عن غيرها في جانب أو آخر؛ فهذه هي الخصوصية، وهي لا تعادل الهوية أبداً. وما ينطبق على الفرد ينطبق على الجماعة والمذهب والملة والقومية والمجتمع والشعب والأمة في مجموعها الأكبر، وينطبق على كل تكوين ينتمي إلى الإنسانية. والحكمة من فقه الهوية هي التصرف وفق الأصول المشتركة الجامعة للإنسانية في مجموعها؛ لا وفق الفروع المنفصلة المفرقة للإنسانية إلى شعوب وقبائل كما قد يتبادر إلى الذهن. إن الحكمة من الاعتزاز بالهوية في السياسة والاجتماع هي التواصل لا التقاطع. هي التعارف والتقريب لا التخالف والتبعيد. هي كالحكمة من الاسم الموصول في فقه اللغة العربية؛ حيث له موقع من الإعراب دوماً. والأصل في النزعة الانفصالية هو أن يعرف الإنسان ذاته بوجه أو أكثر من وجوه التناقض مع غيره؛ لا بوجه أو أكثر من وجوه التواصل والتماثل مع ذلك الآخر. أن يقع أسير الشعور بمركب الاستعلاء والدونية في آن معاً. فشعور الاستعلاء هو الذي يدفعه لإلغاء الآخرين. وشعور الدونية هو الذي يدفعه للانفصال عنهم حرصاً منه على أن لا يفقد خصوصيته أو يذوب فيهم. الأصل في نزعة الانفصال أن يمتلئ قلب الإنسان بالشك وانعدام الثقة، ونفسه بالخوف والرهبة، وضميره بالعذاب، وعقله بالقيود والكوابح. وما ينطبق على الفرد ينطبق أيضاً على الجماعة والمذهب والملة والقومية والمجتمع والشعب والأمة في مجموعها الأكبر. وينطبق كذلك على كل تكوين ينتمي إلى الإنسانية. الغرض من النزعة الانفصالية هو التصرف وفق الرغبات الخاصة، لا الأصول المشتركة. هي التقاطع والتنافر، لا التقارب والتعارف. هي كالحكمة من ضمير الفصل في فقه اللغة العربية؛ اذ لا موقع له من الإعراب دوماً. لكن سيرورة فقه الهوية والخصوصية والانفصال في الأزمنة الحديثة لم تنسجم مع المعنى الذي قدمناه. فبدلاً من أن يكون فقه الهوية والخصوصية مدخلاً إلى التواصل والتشارك والانفتاح، بات في خضم صراعات القرن التاسع عشر وما تلاها من أحداث جسام إلى اليوم؛ سبباً للانفصال والتقاطع والانغلاق، بل لسعي بعض القوى لاستئصال مخالفيها، وحرمانهم من أبسط حقوقهم الإنسانية. وعوضاً من أن تصبح الأخوة الإنسانية هي جوهر فقه الهوية، بات جوهر هذا الفقه هو الانقسام على أسس رأسية: عرقية، عنصرية، ثقافية، لغوية ومذهبية. بل والأدهى والأمر من ذلك هو أن أضحى الخلاف السياسي أساساً للانقسام والتنصل المتبادل بين التيارات والقوى الحزبية المتنافسة، في حين أن تباين وجهات النظر في تقدير المصالح العامة وكيفية تحقيقها هو الأصل في الخلاف السياسي لا أكثر ولا أقل. ولم يعد يتردد في سمع أبناء الزمن الحديث والمعاصر المعنى الذي نبهنا ونبه البشرية كلها إليه الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله «كلكم لآدم وآدم من تراب، لا فضل لعربي على عجمي، ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى». ووجدنا من يرى نفسه أنه «الشعب» ، والآخرون «لا شيء»، أو أنه «فوق الجميع»، أو أنه «أولاً وأخيراً» والباقون لا مكان لهم، ولا وجود؛ أو يزعم أنه «شعب الله المختار». «الهوية» بالمعنى الذي أشرنا إليه تنتمي إلى الفقه السياسي والاجتماعي، انتماءها إلى الفكر الفلسفي. فلهذا المفهوم جذور عميقة تشده إلى بدايات الفكر الإنساني ومحاولاته الأولى من أجل «معرفة الذات المجتمعية». كما أن له حضوراً كثيفاً في التاريخ الحديث والمعاصر؛ إذ أمسى موضوعاً على قائمة مطارحات الفلاسفة، وقادة الفكر السياسي والاجتماعي، ومؤسسي النظريات الفلسفية الحديثة، وواضعي الدساتير.