قامت طائرات تركية بشن غارات جوية ضد قواعد لحزب العمال الكردستاني، بعد أيام من أعمال الشغب والاعتداءات التي ارتكبها أكراد غاضبون، بسبب تخلي تركيا عن المدافعين الأكراد في كوباني (عين العرب) بسوريا. قد تعني عملية القصف توقف مباحثات السلام وإنهاء وقف إطلاق النار القائم منذ 18 شهرا مع حزب العمال الكردستاني، وهو قرار خطير من إردوغان، وأرى أنه خطأ مأساوي وإن كان متوقعا. بيد أن المفاجأة تكمن في كيفية إعداد إردوغان للأتراك لإعادة إشعال حربهم التي كانت منذ 30 عاما مع حزب العمال الكردستاني، وماذا يكشف ذلك عن رؤيته العالمية. قال إردوغان أمام جمع من الطلاب في جامعة مرمرة بإسطنبول يوم الاثنين إن المشكلة هي أن شخصيات شبيهة بـ«لورانس العرب» تمزق أوصال الشرق الأوسط. فمن هؤلاء الدخلاء الغربيون من العصر الحديث، وما الذي يحاولون فعله؟ وفقا لإردوغان، كان لورانس «جاسوسا إنجليزيا متنكرا في صورة عربي». أما النماذج الشبيهة به في الوقت الحالي فهي «شخصيات جديدة اختارت بإرادتها أن تشبه لورانس، وتنكرت في صور صحافيين ورجال دين وكُتاب وإرهابيين»، وأضاف: «واجبنا هو أن نوضح للعالم أن هناك نماذج لورانس حديثة تخدعها منظمة إرهابية». لا شك في أن المقصود من ذلك هم خمسة صحافيين أجانب تم اعتقالهم أثناء تغطيتهم لأخبار المظاهرات الكردية التي خرجت إثر الحصار التركي لكوباني. أما رجل الدين الذي يضعه إردوغان في ذهنه فمن المؤكد أنه فتح الله كولن الداعية المقيم في الولايات المتحدة، الذي يخوض حربا سياسية ضده. وعن الإرهابيين، فهم الأكراد من حزب العمال الكردستاني، ووحدات الحماية الشعبية في كوباني. ولكن يفكر إردوغان فيما هو أكبر من ذلك. هذه الشخصيات الشبيهة بلورانس «تصنع اتفاقيات سايكس بيكو مستترة خلف حرية الصحافة أو حرب الاستقلال أو الجهاد»، بحسب قول إردوغان. بالطبع تشير سايكس بيكو إلى الدبلوماسيين البريطانيين والفرنسيين الذين عقدوا اتفاقية سرية في عام 1916 لتقسيم الأراضي العثمانية بين القوتين العظمتين. ولا تشبه الخريطة التي أنتجوها الواقع الموجود اليوم، ولكنها وضعت الحدود الراهنة بين سوريا والعراق. في إطار هذه العملية، قُسمت الولايات أو الأقاليم العثمانية القديمة، التي كانت أكثر حساسية للانقسامات الدينية في الشرق الأوسط. يقول إردوغان: «إن كل صراع يندلع في المنطقة كان مخططا له منذ قرن مضى. ومن واجبنا أن نوقف ذلك». وتابع موضحا أن تركيا هي الدولة الوحيدة القادرة على توفير السلام في الشرق الأوسط، «ليس بتغيير الحدود بل ببث الأمل والثقة». يمكنني أن أستخلص رسالتين من هذا الحديث. أولا، على الرغم من أن حزب العمال الكردستاني تخلى منذ فترة بعيدة عن مطالبه باستقلال أي أراضي تركية، ليعلن عليها إقامة دولة كردية جديدة، إلا أن إردوغان يعتقد أن ذلك لا يزال هدفهم، وأنهم إذا أصبحوا حلفاء مفيدين للولايات المتحدة في هزيمة «داعش»، ربما سينجحون في تحقيق غرضهم. ثانيا، هل يؤمن إردوغان حقا وفقا مخططاته المبالغة لتركيا أنها سوف تصبح قوة مُنظمة للشرق الأوسط. على أي حال، كان السلاطين العثمانيون آخر الخلفاء وكانوا يحكمون الأراضي التي يريد تنظيم داعش إعادة بنائها في محاكاة بشعة لدولة الخلافة القديمة. لذلك على عكس السعودية وقطر، اللتين دعمتا الثوار في سوريا ضد بشار الأسد، ولكنهما انضمتا إلى الولايات المتحدة لمحاربة تنظيم داعش أولا، تصر تركيا على أن يسير التحالف وفق سياساتها وأولوياتها. لا يشير أي من النتيجتين إلى أن تركيا سوف تقدم مساعدة كبيرة إلى التحالف في حربه ضد تنظيم داعش في وقت قريب. يجيد إردوغان استخدام أسلوب الصدمة بأقصى درجة تسمح له بتغيير الخلاف السياسي لصالحه، فيبث طاقة في قواعده حتى لو كانت بقية العالم تنظر إليه في دهشة وذعر في بعض الأحيان. لا تحتاج ادعاءات إردوغان لأن تكون منطقية، فهي تشكل جزءا من خطاب سياسي يتردد بقوة بين المؤيدين، ويشك المرء أنها في صميم معتقدات إردوغان. ولكن السياسات الناتجة تكون حاسمة ومدمرة، وتُضعِف تدريجيا من نسيج المجتمع ومؤسساته وتحالفاته. وسوف تسفر عن اضطرابات في تركيا باحتمالات أكبر من أن تحقق السلام في الشرق الأوسط. * بالاتفاق مع «بلومبيرغ»