×
محافظة المنطقة الشرقية

تكريم المساهمين في حصول كلية الجبيل الصناعية على شهادة ABET

صورة الخبر

تتأرجح الثقافة في السودان بين هموم عدة. علاقة وجد بالفنون أحياناً، وغياب فائق عن المشهد في أحيانٍ أخرى. كل ما يحدث، يقوم على العلاقة غير المستقرة بين الثقافة والمثقفين والفن والفنانين والسلطة. يتردد الكلام ذاته على لسان كل من تلتقي بهم: «إنها مسؤولية الحكم الراهن». مضى ربع قرن على استلام السلطة من دون أن يبادر النظام، أو أن يجد نفسه مضطراً، إلى حضن الفنون والنشاطات الثقافية والأدبية. لا شيء من ذلك. الكلام على صنعة وخيال، يقود إلى المبالغة. المؤكد، أنّ مسافات شاسعة تفصل بين الحياة السياسية والحياة الثقافية. لم يجرِ «تطبيع» العلاقة بين الطرفين، بحيث يستفيد من ذلك الناس على الضفتين. كلام اليساريين حاسم بعدم تمجيدهم لممارسات السلطة، إلا أنه كلام عداء أيديولوجي، أشبه بالعداء بين الفصول. يمتلك الآخرون، الأيدي الخلاقة بكتابة مراسيم العداء للسلطة. لا حاجة لاختراع المبرّرات، لأنّ السلطة تقدمها من دون تبرير أو تحوير. تحيل كل أدوات العداء إلى تحف. يردّد الليبراليون والديموقراطيون أن السلطة، في أحيان كثيرة، لا تتقنّع في معاداة الثقافة والمثقفين، إنما تقنّع ممارساتها الأيديولوجية بمواهب ومهارات تقود إلى كتابة التاريخ بتنويع الحضور الديني، حين تفسح المجال واسعاً أمام الطرق الأخرى. والطرق الصوفية واحدة منها. تحديات ثقافية استغرق الحصول على إذن لإقامة ورشة ثقافية أكثر من شهرين. لم يستطع أعضاء الاتحاد الترحيب بضيفهم في أروقة المطار الداخلية، في حين اندس رجال أمن بين المسافرين لتسهيل معاملات دخول تجار وعاملين في المجالات الاقتصادية والصناعية. وجد الضيف منتظريه، في باحة المطار الصغير في الخرطوم. لا مظاهر إبداع أو فرادة في تصميم المطار. بل هو بعيد عن مميزات مطارات العواصم الشهيرة. الخرطوم تحتاج إلى مطار آخر. وإذ تردد ذلك، تأتيك الأخبار بأن افتتاح المطار الجديد في أم درمان، يحتاج إلى سنة واحدة بعد. لا يبعد المطار عن العاصمة أكثر من عشر دقائق في السيارة، بحساب زحمة السير. وهي زحمة مرهوبة بالعاصمة، حيث تتقاطع الطرق وسط كم كبير من السيارات القديمة والحديثة المغبرة. الاغتناء بالجديد، ليس واضحاً. الواضح أن الناس تطالب السلطة بإبرام عقد اجتماعي جديد معها. يعقب ذلك إبرام عقد ثقافي. الكل يتأفف، الكل يتململ. ذلك أن لا ثقافة، لا بالشميم ولا بالتذوق. الثقافة، هنا، قصيدة الحاسة، قصيدة الحساسيات المختلفة الغائبة في خضّم سوداني عملاق. خضم يبتلع كل شيء، إلا السياسة والسياسيين. تحفل الصحف بأخبار البشير بعد وعكة صحية. تنشر صوره، يشير بعصاه إلى الفضاء، محرماً تأجيل الانتخابات، محتضناً فكرة حوار يراه الأخصام صورياً أو شكلياً أو مكرراً بلا نتيجة أو نتائج. لا تلمس للتنوع، يتفق الكل على ذلك، وهم يرددون بأن مأدبة الشراكة لن تقام مع حكم لا يزال يقيم الحدّ على الآخر بالشريعة. الحكايات كثيرة، غير أن أعطاب الحياة، في غياب الرغبة بتحويلها إلى متعة أو أحداث جمالية، واضحة، في النهارات والليالي. اليوم السوداني فتيّ. الليل السوداني شاهد على تباعد الألوان. المعارضات في كل مكان، أشبه بمسدسات كاتمة للصوت. تاريخ غير قائم إلا على الشكوى وانتظار الظروف الأفضل. لا شيء فاخراً على الطرق. لا صفحات ثقافية في الصحف السودانية. الصفحة الثقافية شبح ميت ما زال يتردد بالتحرر من الطيران بين عالمين، بهيئة الميت الحي أو الحي الميت. لا شيء من الثقافة، في» اليوم التالي» أو «السوداني» أو الصحف الأخرى. أخبار فنانين من بلاد الغرب، أو حديث عن العباءة المحليـــة وفـــوائـــدها، أو كلام عـــلى إغــلاق المستشارية الثقافية الإيرانيـــة، لأن العاملين فيها، ابتكروا طريقة جديدة لنشر التشيّع. قرأت تحقيقاً على صفحة كاملة، اقتضتها الحاجة والضرورة، للرد على محاولات تشييع، لا تزال ناشطة في السودان، على ما يتردد. الملاحق الثقافية قليلة، لكنها في المجمل بعيدة عن القدرة على التمييز بين الصناعة (ثقافة وطبيعة) وبين التصنع (تكلف ومبالغة يؤديان إلى الخروج من الطبع). تجسيد الموهبة أو المهارة فيها، ينقصه الاعتراف بالآخر والوصول بالكتابة إلى يقظتها العالية، الاحتراف. كل من التقيتهم اشتكوا من عدم الاعتراف بهم. قضية الاعتراف شرف يُطلب ويُحسب ويعتز به، ولن يمنحه أبطال السلطة الثقافية إلى من لا يتبع سلطتهم مثلما لن يرى سبيلاً إلى الملاحق الثقافية. فمحررو الملاحق الثقافية لا يسهرون على الثقافة بذاتها ولا على المثقفين، لأن النشر للآخر. هو جنوح الآخر نحو الذروة. لا حوافز في المجال هذا. لا شخصيات تهتدي بنار الإبداع، لأن الخوف من مشاعر امتلاك الآخر للمنصة، يمتلك أصحاب المنصات. يلتقي الظالم والمظلوم في نشاط ثقافي أو ورشة أو مناسبة اجتماعية أو عرض افتتاحي لمسرحية جديدة، كخطوط فاخرة متفرقة. ثم لا يلبثون أن يتفرقوا كما التقوا، بلا طاقات الشراكات الجميلة، أو طاقات الصنع الجميل. لا يطلب الكاتب من الكتابة إلا الفيض الجمالي والروحي. لن يجد الفيضين، باستبعاده عن النشر. أما تجاوز حدود الأهواء هذه، فلن يؤدي إلى شيء ملموس، لأنّ نشر المادة المكتوبة مجاني. فالصحافة الثقافية غير محترفة. هي طبق يزين نفسه بنفسه، من دون أدوات الزينة أو خرائطها المؤدية إلى الاستمرار والتكامل. لذا، فإنها ليست عريقة ولا راسخة. يقوم عليها أفراد، لا بوصفها ملكية عامة أو ذات حضور مطلق، بل لأنها تعبّر عن امتدادات شعورهم بالحضور وعلاقتهم بالعالم. فسحات داخلية، من دون قدرات التحوّل إلى مراتع استقبال الآخر والجديد. شيء يشبه تناثر الأشجار في صحراء ذات طبائع قاسية. لا نسيج ثميناً، لا نسيج أنيقاً، لأن البلاد لا تزال بانتظار أعراسها الثقافية النائية، أو ربما عرسها الثقافي بصيغة المفرد. لا تزال تناظر إماطة اللثام عن الدور الأساسي لوزارة الثقافة. «إنها وزارة إكراميات». اتفق الكل على هذا التوصيف. الوزارة تُعطى للوزير الغاضب. تتسع أو تضيق بحسب الأحداث السياسية. هي وزارة بلا دلالات وبلا أمثلة، لأنها لا تملك خصوصية. لم تمنح السلطة الإذن بإقامة أول ورشة ثقافية في تاريخ السودان (ورشة تعليم كتابة المقالة الخاصة بالكتّاب) إلا بعد زمن على طلب الترخيص. مسؤولو مركز «عبد الكريم ميرغيني الثقافي» يشتكون باستمرار من تضييق السلطات على نشاطاتهم. مطلقو جائزة الطيب الصالح، يهيئون لإطلاق معرض تصوير فوتوغرافي ضخم، ونشاطات مُرافقة خلال الأيام المقبلة، وثمة أيضاً مهرجان مسرح تجريبي، ومشروع قراءة من أجل التغيير. أمّا دور النشر فهي ليست إلا غرفاً عادية. بيوت تصدر ما له علاقة بطين الداخل إلى العالم العربي. أما المثقف أو الفنان السوداني فما زال حائراً أمام الرغبة في الانتماء إلى العالم العربي أم إلى القارة الأفريقية. طينة الحاجة شيء وطينة الرغبة شيء آخر. خطوات مترددة باستمرار. الازدواجية الثقافية هذه لا تشبه ازدواجية المغاربة، بين اللغات والمخيلات، غير أنها قاهرة، قاسية، مثلها. كل شيء يعارضهم، ولا شيء سوى المجردات. الحضور السوداني في العالم العربي والقارة الأفريقية حضور مجرد. لا هيئة نهائية للحضور. لا هوية محسومة، لا أحد يرغب بالزخارف في غياب الأبنية. المسرح في عهد الإنقاذ قد تكون زيارة المسرح القومي في «أم درمان» دليلاً على غياب المسرح لا حضوره. أقل من ساعة بقليل للوصول إلى المسرح القومي. اسم مهيب، بلا تاريخ وبلا هوامش. يتجمع الفنانون في باحته الخارجية حيث يمنحهم الشجر فيأه. المبنى بلا مواقع ولا مجامع. مديره الإداري، لا ينفك يوقع الأوراق الكثيرة بين يديه. بين يديه، مسرح مكشوف. لا علاقة لذلك بالمسرح الشكسبيري أو الإليزابيثي. مسرح مكشوف على الفضاء والحَرّ. منصته صبت صباً. تجهيزاته لا تضاهى. لا ضوء هنا، إلا ضوء الإنسان. لا صوت إلا صوت الإنسان. ثمة ملصقات يدوية، معلقة بطرق بدائية على الحائط. تهنئة بنجاح جراحة ما، تقسيط ثمن خروف العيد على تسعة أشهر لفناني المسرح، ورقة عن عرض جزائري غير محدد زمنه. لا مسرح وطنياً. «مهرجان البقعة»، استقام على التسمية هذه. مهرجان سنوي، يبحث عن كرامة الفنان المسرحي في السودان. هاجر الكثيرون منهم، بسبب السياسات «الإنقاذية» في البلاد. وفي هذا السياق يقول الناقد السر السيد: «أقعدت السياسات الإنقاذية المسرح. أصابته بالعطل والعطب والتهجير». شهد المسرح السوداني في عهد الإنقاذ تراجعاً كبيراً. لم يقدم المسرح القومي، بين العامين ١٩٩٠ و١٩٩٤ أية مسرحية. «تحول إلى دكان، لا يبيع ولا يشتري فيه، إلا من استطاع سبيلاً»، بحسب تعبير السر السيد الذي يصف عهد الإنقاذ بالكارثة، إلى حد أن مسرح قصر الشباب والأطفال ومسرح أم درمان الأهلي تحولا إلى صالات عرض للأفلام الهندية وأفلام الكاراتييه. في ذاك العهد، مات مسرح الولايات واختفت عبارة «أعطني مسرحاً أعطك أمة». انتهى المسرح المدرسي في عهد الإنقاذ. وأُغلق المعهد العالي للموسيقى والمسرح. «هي مرحلة عسف وعداء»، بحسب الناقد الدرامي اليسع حسن أحمد. ماذا يبقى من قيمة المسرح وسط انقطاعات صعبة متكررة. الأسماء الجادة في المسرح ليست في طلائع البحوث، لأن البحوث لا تزال تراوح بالقواميس القديمة. ثمة أسماء في المسرح، غير أنها راهنة وليست راهنة في آن. وأسماء شبان صغار في مجال الأدب، القصة القصيرة والشعر والرواية. فجائزة الطيب الصالح خرَّجت الكثير من الأسماء. في القصة القصيرة والرواية نجد مودة نصر الله، فضل المولى محمد، محمد عبد الرحيم سعد يوسف، عادل بدر الدين علي محمد، خالد عمر عبدالرحيم محجوب، أبو بكر الصديق المهدي الخضر، الصادق يوسف حسن محمد، أيمن آدم عبد الرحيم، الشيخ عبد الرحمن الشيخ محمد، أيمن محمد عبد السلام دفع الله، إسلام أحمد محمد أحمد. ولهذه الأسماء إصدارات فردية أو مشتركة. وفي الشعر: النور عثمان أبكر وعبد الله شابو ومحجوب شريف ومعتصم الأزيرق. أما حال المسرح فهو أشبه بمقبرة. تجاذب وخصومة بين الجحيم والجحيم. نهاية سلاسل الأسماء هنا. التضاد بين السكون والحركة جلي بين المسرح والمجالات الإبداعية الأخرى. بيد أن الأسماء السودانية لا تصل إلى الحياة الخالدة لأنها لا تزال تكتفي بنواحي الممكن. ويردّ كثيرون هذا الأمر إلى زهد السوداني وتواضعه. فلا يزال الطيب الصالح، أحد الأسماء القليلة الداعية إلى الانتباه إلى السودان، لا بوصفه بؤرة قومية أو إسلامية فقط، إنما الانتباه إلى أنه بلد يمتلك لغة غير لغة الحرب والانقسام والتشتت والخلاف على المثيل والشريك. تكتفي السودان بإصدار خمسين رواية فقط منذ عام ١٩٢٠، خمس منها للطيب الصالح. لا يرغب الجميع باستمرار الشكوى، ولا بتحويل الناس في السودان إلى كائنات خطية. ولكن، هم يقولون «خمسون رواية لا تصنع رواية». هذا فعل تدوير، لا تصدير، وهذه ليست حجة. لأن القراءة، وحدها تكفل الخروج من الإحصاء إلى الصدور والبقاء.