الحمد لله حمد الشاكرين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد،،، لقد أحرزت البشرية في العصور المتأخرة انتصارات شتى في مختلف العلوم الدنيوية، ورغم تقدمها في هذا المجال إلا أن المشكلات النفسية والاجتماعية للأفراد والمجتمعات في تفاقم خطير ووبال مستطير، وأصبح ما يُسخر لرفاهية الإنسان والتخفيف عنه سبباً في همه وحزنه وضيق صدره، بل في إزهاق روحه أحياناً، حتى أصبح الإنسان تائها وراء أوهام السعادة باحثا عنها تحت وهج الشمس وضياء القمر.. فما هذه السعادة التي يبحث عنها كل إنسان؟ إنها الصفاء القلبي، والجمال الروحاني، والنقاء الوجداني، السعادة هي تلك الهبة الربانية، والمنحة الإلهية التي يهبها الله لمن يشاء من عباده جزاء أعمالهم الصالحة التي قاموا بها، السعادة هي تلك الكلمة التي تبعث الراحة النفسية وتحقق الرضا والطمأنينة وتُقَوِّم السلوك وتزكي النفوس الأبية. هناك مفاتيح للسعادة قد يصعب على الناس امتلاكها ... بل ويقضون حياتهم بحثاً عنها... لعلهم يجدونها يوماً من الأيام فتفتح أبواب السعادة أمامهم. لقد جرب الناس في شتى العصور ألوان المتع المادية، وصنوف الشهوات الحسية فما وجودوها تحقق السعادة. لقد بحث عنها قوم في المال الوفير والعيش الرغيد فما وجدوها، وآخرون بحثوا عنها في المناصب العالية فما حصلوها، وآخرون بحثوا عنها في الشهرة والجاه العريض فما ظفروا بها... لماذا؟ لأن السعادة شيء ينبع من داخل الإنسان يشعر به بين جوانبه، فهو أمر معنوي لا يُقاس بالكم، ولا يشترى بالمال، بل هي صفاء نفس، وطمأنينة قلب، وراحة ضمير، وانشراح صدر، ولا يحصل ذلك إلا بالإيمان والعمل الصالح قال الله تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (97) سورة النحل. قال أحد السلف واصفاً حاله وهو في غمرة السعادة الحقيقية: إنه لتمر عليّ ساعات أقول فيها: إن كان أهل الجنة في مثل ما أنا فيه إنهم لفي عيش رغيد. وقال ابن القيم رحمه الله (في كتابه مدارج السالكين): «في القلب شعث لا يلمه إلا الإقبال على الله، وفيه وحشة لا يزيلها إلا الأنس بالله، وفيه حزن لا يذهبه إلا السرور بمعرفته، وصدق معاملته، وفيه قلق لا يسكنه إلا الاجتماع عليه والفرار إليه، وفيه نيران حسرات لا يطفئها إلا الرضا بأمره ونهيه وقضائه ومعانقة الصبر على ذلك إلى وقت لقائه، وفيه فاقة لا يسدها إلا محبته وإلإنابة إليه ودوام ذكره وصدق الإخلاص له، ولو أعطي الدنيا وما فيها لم تسد تلك الفاقة أبدا». كل إنسان يتطلع للسعادة ويبحث عنها، لكن السعادة في الحقيقة ليست هدفاً في ذاتها، بل هي نتاج عملك وتواصلك مع الآخرين بصدق، إن السعادة تكمن في أن تصنع قراراتك بذاتك وبنفسك، أن تعمل ما تريد لأنك تريده لا لأنهم يريدون، أن تعيش حياتك مستمتعاً بكل لحظة فيها، أن تبحث عن الأفضل في نفسك وفيمن حولك، إن السعادة الحقيقية لا توجد إلا بالإيمان بالله عز وجل والتزود من الأعمال الصالحة، قال الله تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (97) سورة النحل وإذا نظرنا حولنا، رأينا كثيراً من الناس يبحثون عن السعادة دون أن يجدوها وذلك لأن مفهوم السعادة قد اختلط لديهم وتشابك مع غيره من المفاهيم، فهناك من يعتقد أن السعادة بالمال وحده. وهناك من يعتقد أن السعادة تكمن بوجود النفوذ والمكانة الاجتماعية. وهناك من يعتقد أن السعادة تكمن بالطموح وتحقيق الذات. ومن الناس من ينظر للجمال على أنه قمة السعادة. وبعضهم يرى أن الصحة هي مصدر السعادة. وأخيراً نجد فريقاً من الناس وهم قلة يرون أن الأعمال الخيرية والتطوعية التي يقومون بها هي غاية سعادتهم لأنهم يرون أن سعادتهم تنبع من سعادة الآخرين فابتسامة من طفل صغير، أو نظرة امتنان من شيخ كبير، أو دعوة صادقة من قلب امرأة ضعيفة تساوي لديهم الدنيا وما فيها من النعيم والخيرات. وهذا النموذج يعتبر أحد النماذج التي ترى أن السعادة الحقيقية هي السعادة الأخروية. فهم على قناعة تامة ويقين جازم أن الدنيا فانية، ولن يبقى للإنسان سوى عمله الصالح الذي عمله. أما النماذج السابقة فإنها تعتبر من النماذج التي ترى أن السعادة الحقيقية هي السعادة الدنيوية بحيث يعيش هؤلاء ليستمتعوا بالدنيا وما فيها، متناسين أن هناك حياة أخروية وهناك جزاء وحساب على أعمالهم التي عملوها في الدنيا. باعتقادي أن السعادة الحقة تكمن في ثلاثة أمور هي: طاعة الله، وراحة البال، والقناعة. فنحن حينما نستشعر رقابة الله تعالى لنا في كل لحظة، ونحاول بشتى جهودنا أن نطيعه في كل ما يصدر عنا من أقوال أو أعمال حينها سنشعر بالراحة والسكينة تملأ نفوسنا، فنسعد بحياتنا ونهنأ بعيشنا لأن الله تعالى سيكون معنا في كل لحظة وفي كل خطوة نخطوها. وراحة البال تجعل الإنسان يشعر بالاستقرار والهدوء النفسي، ويعيش بعيداً عن التوتر والقلق الذي يصاحب الحياة الآن بإيقاعها المتسارع الذي يسرق الوقت والراحة من البشر بسبب سعيهم المحموم وراء المادة، أو لافتقادهم الإحساس بالأمان. أما القناعة وهي أن يؤمن الإنسان بما قسمه الله له من الرزق، بحيث يكتفي بما عنده دون أن يكون بحاجة إلى النظر لما في أيدي الآخرين، ولكن هذا لا يعني أن يكون الإنسان زاهداً في دنياه فيتجرد من كل شيء ولا يعمل من أجل حياة أفضل، بل إن عليه أن يسعى ويتوكل على الله تعالى حتى يحقق أحلامه في الدنيا وسعادته في الآخرة. قال الله تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا} (19) سورة الإسراء. اخواني: إذا أصبح العبد وليس همه إلا رضا الله وحده، تحمل الله سبحانه وتعالى عنه حوائجه كلها، وفرَّج له كل ما أهمه، وفَرَّغ قلبه لمحبته، ولسانه لذكره، وجوارحه لطاعته، وحقيقة السعادة ومدارها في طاعة الله تعالى والإيمان به واتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم. عن أبي ذر رضي الله عنه أنه قال: (أمرني خليلي صلى الله عليه وسلم بسبع: أمرني بحب المساكين والدنو منهم، وأمرني أن أنظر إلى من هو دوني ولا أنظر إلى من هو فوقي، وأمرني أن أصل الرحم وإن أدبرت، وأمرني أن لا أسأل أحدا شيئا، وأمرني أن أقول الحق وإن كان مرّا، وأمرني أن لا أخاف في الله لومة لائم، وأمرني أن أكثر من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله فإنهن من كنز تحت العرش) [رواه الإمام أحمد 5/159]. ذكر الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - أن لسعادة العبد ثلاثة مقومات: « إذا أُنعم عليه شكر، وإذا ابتلي صبر، وإذا أذنب استغفر..». قال سفيان الثوري رحمه الله: « ما بقي لي من نعيم الدنيا إلا ثلاث: أخ ثقة في الله أكتسب من صحبته خيراً إن رآني زائغا قومني أو مستقيما رغبني، ورزق واسع حلال ليست لله عليّ فيه تبعة ولا لمخلوق عليّ فيه منه، وصلاة في جماعة أكفى سهوها وأرزق أجرها «. أما عن أسباب السعادة فأقول: إن الأسباب التي تحصل بها الحياة الطيبة، ويتم بها السرور والابتهاج، ويزول عنها الهم والغم كثيرة ومن أهمها: 1. الإيمان والعمل الصالح: قال تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُون . فأهل الإيمان يتلقون ما يسرهم بالقبول لها وشكر الله عليها، واستعمالها فيما ينفع، وبالتالي يحصل لهم الابتهاج بها والسرور، ويتلقون المكاره والمضارَّ والهم والغم بالصبر الجميل واحتساب الأجر والثواب. قال صلى الله عليه وسلم: (عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له). 2. الإحسان إلى الخلق بالقول والعمل وأنواع المعروف: فإن ذلك يدفع الله به عن البر والفاجر الهموم والغموم، لكن للمؤمن منها أكمل الحظ والنصيب، إذ يتميز إحسانه بأنه صادر عن إخلاص واحتساب، فيهون الله عليه بذلك المعروف لما يرجوه من الخير، ويدفع عنه المكاره بإخلاصه واحتسابه، قال تعالى: (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا). 3. الاشتغال بعمل من الأعمال أو علم من العلوم النافعة مما تأنس به النفس وتشتاقه، فإن ذلك يلهي القلب عن اشتغاله بالقلق الناشئ عن توتر الأعصاب، وربما نسي بسبب ذلك الأسباب التي أوجبت له الهم والغم، ففرحت نفسه وازداد نشاطه. 4. اجتماع الفكر كله على الاهتمام بعمل اليوم الحاضر، وترك الخوف من المستقبل أو الحزن على الماضي، فيصلح يومه ووقته الحاضر، ويجد ويجتهد في ذلك. قال صلى الله عليه وسلم: (احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان) رواه مسلم. 5. الإكثار من ذكر الله، فإن ذلك من أكبر الأسباب لانشراح الصدر وطمأنينة القلب، وزوال همه وغمه، قال تعالى: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ . [سورة الرعد: 28]. 6. النظر إلى من هو أسفل منه، كما قال صلى الله عليه وسلم: (انظروا إلى من هو أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فإنه أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم) رواه البخاري ومسلم. فبهذه النظرة يرى أنه يفوق كثيراً من الخلق في العافية وتوابعها، وفي الرزق وتوابعه، فيزول قلقه وهمه وغمه، ويزداد سروره واغتباطه بنعم الله. 7. السعي في إزالة الأسباب الجالبة للهموم، وفي تحصيل الأسباب الجالبة للسرور، وذلك بنسيان ما مضى عليه من المكاره التي لا يمكنه ردها، ومعرفته أن اشتغال فكره فيها من باب العبث والمحال، فيجاهد قلبه عن التفكير فيها. 8. تقوية القلب وعدم التفاته للأوهام والخيالات التي تجلبها الأفكار السيئة؛ لأن الإنسان متى استسلم للخيالات وانفعل قلبه للمؤثرات من الخوف والأمراض وغيرها، أوقعه ذلك في الهموم والغموم والأمراض القلبية والبدنية والانهيار العصبي. 9. الاعتماد والتوكل على الله والوثوق به والطمع في فضله، فإن ذلك يدفع الهموم والغموم، ويحصل للقلب من القوة والانشراح والسرور الشيء الكثير. 10. إنه إذا أصابه مكروه أو خاف منه فليقارن بينه وبين بقية النعم الحاصلة له دينية أو دنيوية، فإنه سيظهر له كثرة ما هو فيه من النعم وتستريح نفسه وتطمئن. اللهم أسعدنا بطاعتك، وأدم علينا نعمك الظاهرة والباطنة، واجعلها عوناً لنا على طاعتك. اللهم احفظنا واحفظ بلادنا وولاة أمرنا من كيد الكائدين وحسد الحاسدين والحمد لله رب العالمين. - جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية