×
محافظة المنطقة الشرقية

«التعليم» تستبعد المعارين والمبتعثين من النقل الخارجي

صورة الخبر

إذا كان فيلم (وجدة) للمخرجة المبدعة هيفاء المنصور يبدو في ظاهره حكاية طفلة سعوديّة تسعى إلى الحصول على دراجة هوائيّة، حتى تتسابق مع ابن الجيران، رفيق طفولتها فالفيلم وخلال سعي وجدة لتحقيق حلمها، يحوي إسقاطات تكتشف جوانب من هموم المرأة السعودية.. بطلة الفيلم طفلة في الحادية عشرة من عمرها، تتمرد على واقعها الذي اكتشفت مدى انحيازه إلى الذكور وقمعه للنساء، وهنا يحدث التصادم بين الصورة الطبيعية للحياة، والقيود المجتمعية التي طرأت على مجتمعنا منذ سنوات الغفلة غير المباركة! تنتمي وجدة لعائلة من الطبقة المتوسطة، والدها موظف في شركة بترول، يغيب بحكم عمله كثيراً عن البيت، حيث يحضر لابنته الوحيدة حجراً بركانياً، يُعتقد أنه يجلب الحظ. ووالدتها موظفة، يبعد مقر عملها كثيراً عن مسكنها، وتعاني كثيرا – في سبيل احتفاظها بوظيفتها - من السائق الذي لا يكف عن تهديدها بعدم إيصالها لعملها إن هي تأخرت في الخروج من بيتها، وهي معاناة كثير من النسوة في بلد يمنع المرأة من قيادة سيارتها بنفسها، لتكون ضحية لأنواع مختلفة من الابتزاز، إن كان من الأزواج أو الأشقاء أو السائقين، أو التهديد بالفصل من العمل من قبل الرؤساء، عندما يكثر الغياب، علاوة على ذلك تعاني خوفاً من اقتران زوجها بامرأة أخرى، لأنها لم تنجب له الولد الذي يتمناه، إذ تفشل كل محاولاتها الدؤوبة في المحافظة على عش الزوجية، فلم يفدها الفستان الأحمر الجميل، الذي تشتريه من أحد المولات، وتجربه في دورة المياه في المول الكبير بصحبة ابنتها، حيث لا توجد غرف للقياس!!! كما لم ينجح حرصها على تحقيق رغبات الزوج فيمه يحبه فيها، فهي ترفض قص شعرها الطويل الأسود الناعم الذي تتركه مرسلاً لأن زوجها يحبه هكذا. أما وجدة فكل حلمها ينسج حول امتلاك دراجة من الدراجات المعروضة في محل تجاري، تمر بها في ذهابها وإيابها من المدرسة، ولا تنفك من الوقوف عندها والنظر إليها بشغف كي تتسابق مع ابن جيرانها، على الرغم من أن ركوب الدراجات محظور على الفتيات – كقيادة السيارة للكبيرات - إلا أن الحلم يظل ملازماً لها كظلها، ومن أجل هذا الحلم نراها تعمل بجد في صناعة أساور اليد الصغيرة حسب أعلام النوادي الرياضية تنجزها ببراعة وتبيعها في المدرسة، وعندما لم تستطع توفير ثمن الدراجة، وهو 800 ريال، تقرر الاشتراك في مسابقة تحفيظ القرآن في مدرستها، لا سيما أن مديرة المدرسة التي تمثل الجانب السلطوي كانت تؤنبها دوما على تصرفاتها وعدم انضباطها بقولها لها: (ما فيك فايدة ما تتغيرين)، تغير موقفها منها عندما لم تشهد لصالح الطالبتين اللتين اتهمتهما المديرة بممارسة الشذوذ في ساحة المدرسة الخلفية. وبعد أن تبذل جهداً كبيراً في حفظ القرآن، تفوز في المسابقة، فتسألها المديرة عمّا ستفعله بمبلغ الجائزة (ألف ريال)، فتجيبها في غاية الصدق أنها ستشتري دراجة، ما يشكل صدمة للمديرة الساهرة على حماية الفضيلة، ومعالجة تمرد الصغيرات، تلك الصراحة أثارت ضحك باقي التلميذات، وسرعان ما قررت المديرة التبرع بالمبلغ لفلسطين، في هذا المشهد تبلغ الكوميديا السوداء حدها الأقصى، عندما أعلنت المديرة أن ركوب الدراجة لا يصح للفتيات المؤمنات، ما يمثل قمة التسلط باسم الدين، كما أنها لم تمنع وجدة من تحقيق حلمها فحسب، بل تقرر نيابة عنها أن تمنحها ثواباً لم تطلبه ولم تسع إليه بحكم سنها. كذلك حين نعلم أن مبلغ جائزة حفظ القرآن سينفق على شيء محرم - حسب الاعتقاد السائد - ليس محرماً لذاته، بل لأن من ستقود الدراجة فتاة، مثلها مثل السيارة التي حرم على المرأة قيادتها. تلك الحبكة تمثل جوهر الكشف عن حجم التناقض في مجتمعنا لتعلقه بالمرأة. استطاعت هيفاء المنصور تصوير فيلمها في مدينة الرياض، وهذا إنجاز كبير، وسبق لم يحققه سينمائي قبلها، وتبدو المدينة حاضرة بقوة لا في صورتها الحضارية، ونظامها المعماري، وحواريها الخلفية التي تقطنها العمالة الوافدة من سائقين وعمال، ولكن في كشف كثير من مظاهر المسكوت عنه، ليس في العاصمة وحدها بل في كل مدننا، حيث معاناة المرأة تهميشاً وتغييباً عن الفضاء الاجتماعي، وبؤس المناخ التعليمي للفتيات، الذي يتجسد في قمع الصغيرات وإلزامهن بتغطية الوجوه، ولبس عباءات على الرأس، ليبدون كتلاً من السواد المتحرك. حرصت المخرجة منذ بدء الفيلم على وضع المشاهد أمام حقيقة مؤداها أن الاختلاف أو التحليق خارج إطار السائد، يعرض صاحبه لمواجهة دائمة مع حراسه، الحريصين على استدامته، فمنه يستمدون بقاءهم محتمين بالنزعة السلطوية التي يمنحهم إياها. في المشهد الأول من وجدة نرى في لقطة مجموعة من أحذية بنات متماثلة، ثم نرى حذاءً واحداً رياضياً مختلفاً وعندما تصعد الكاميرا إلى أعلى يطل علينا وجه الصغيرة وجدة تلميذة الصف الرابع، وفي مشهد آخر نرى وجدة لا تؤدي بحماس النشيد، فتغضب المديرة - المتوترة علاقتها دوما بالصغيرات – وتطلب منها الخروج من الطابور لتنشده بمفردها، لكنها لا تؤديه كما تريد فتعاقبها على ذلك. ثم يبدأ الكورال أو القطيع الصغير في الإنشاد بقوة بعدما عوقبت وجدة أمامهن. فوجدة ليست طفلة عادية، بل نموذج للاختلاف في مجتمع يرفض ذلك ويعتبر المختلف مذنباً، أبت وجدة أن تكون جزءاً من قطيع صغير تقوده مديرة المدرسة المتسلطة، الأمينة على تنفيذ أجندة التشدد في الجو المدرسي المفتقد لعناصر البهجة والمحبة والتسامح، إلا لمن انقادت طائعة لتعليمات القطيع، حيث استمتعت وجدة بشيء من ذلك عندما بدت عليها ملامح التوبة من الاختلاف، بانضمامها لنشاط تحفيظ القرآن في المدرسة. تستفز وجدة الذكورية المتأصلة في المجتمع، تلك النزعة تؤلمها كثيراً فكونها فتاة لا يجوز لها ركوب دراجة، حتى شجرة العائلة التي يضعها والدها في ركن غرفة الضيوف، تستوقفها وتستفز مكامن الغيظ في نفسها، ذلك أنها لا تتضمن سوى أسماء ذكور العائلة، فتأخذ ورقة تكتب عليها اسمها وتلصقها تحت اسم أبيها، لكنها فيما بعد تجد الورقة منزوعة من الشجرة وممزقة! وتذهب كي تحجز الدراجة لتصفعها إجابة البائع، الفتيات لا يركبن الدراجات، تلك الذكورية القميئة تشكل دافعاً قوياً، لإصرارها على شراء الدراجة، سوف اشتري الدراجة هكذا تقرر. برز في الفيلم النفاق الاجتماعي أو الازدواجية التي يتورط بها بعض المتأسلمين، فالصرامة التي تبديها المديرة في المحافظة على أخلاق البنات، فنجدها تقف في فناء المدرسة ذات الأسوار العالية، والبوابة المزدوجة الأكثر شبها بأبواب السجون، التي تفضي إلى ساتر خرساني يقف حاجزاً بين البوابة والفناء، كي لا تقتحم عيون المارة والآباء ذلك الحصن المنيع! تقف المديرة لتطمئن على احتشام البنات، بإحكام الغطاء الأسود على الوجه، ووضع العباءة على الرأس، فذلك حجاب نساء الجنة، كما تشير كثير من المطويات التي توزع في مدارس البنات، أما وجدة التي تضع عباءتها على كتفيها، فتأمرها بعدم الحضور إلى لمدرسة إلا بعباءة رأس. لكن هذه المديرة الملتزمة ظاهرياً، تخفي حقيقة علاقتها بشاب يزورها في بيتها، وعندما اكتشف أمره أشاعت أن لصاً حاول الدخول إلى بيتها، وحرصت على أن تروج الشائعة في المدرسة كي تضيع الحقيقة، لكن الطفلة وجدة تستخدمها بخبث طفولي عندما حرمتها من مبلغ الجائزة، وكأنها تقول: الطفلة التي تركب دراجة ليست كمن تواعد رجلاً تزعم أنه لص حاول اقتحام بيتها. كما يبدو عدم احترام الصدق كقيمة دينية وتربوية، فعندما أعلنت وجدة للمديرة أنها ستشتري دراجة بمبلغ الجائزة، نهرتها بقولها إن البنات لا يركبن الدراجات، وسرعان ما أعلنت عن مصادرة مبلغ الجائزة. ولو كذبت لما سحبت منها، وهذا هو الأسلوب الشائع لدينا في التعليم فقول الحقيقة مدعاة للعقاب ومصادرة الحقوق، خلافاً للكذب والالتواء. حيث ينجو من يتلبس بهما، ولهذا انتعشت في مدارسنا وغيرها ثقافة النفاق من قبل الوصوليين وطالبي السلامة. كذلك أرادات هيفاء المنصور هنا أن توقفنا على حقيقة المسلك النفعي (الغاية تبرر الوسيلة)، فالمجتمع لا يبالي إن حفظ أفراده القرآن لتحقيق أهداف خاصة، بدليل أن حفظه لم يغير شيئاً في شخصية وجدة المتمردة على السائد، لكن روح التمرد لم تخلُ من سلوك إيجابي تمثل في الاعتماد على النفس لتحقيق ما تريده، في شروعها بنسج الأساور وبيعها، ولاحقاً الانضمام لجمعية حفظ القرآن، لتشتري الدراجة. صورة الطفلة هنا، تخالف حسب رؤية هيقاء المنصور صورة الأم، الزوجة المستكينة، الغارقة في خوف فقدان زوجها، لكنها على الرغم من الانتكاسة التي تعرضت لها بزواجه من أخرى، تنحاز إلى ابنتها المشاكسة حيث تفاجئها بشراء الدراجة، فينتهي الفيلم ووجدة تسابق ابن الجيران عبدالله وتفوز عليه، لكي تقول هيفاء الإصرار دوماً يأتي بنتيجة. حصد فيلم وجدة عدداً من الجوائز والشهادات التقديرية، كما وافقت أكاديمية العلوم والفنون الأمريكية (أوسكار) على دخوله ضمن الترشيحات الأولية لجائزة أوسكار أفضل فيلم أجنبي لعام 2013، ليصبح بذلك أول فيلم سعودي يصل إلى هذه المرحلة المتقدمة في أهم محفل سينمائي على مستوى العالم. أما هنا فقد سُمح بعرضه في قصر الثقافة بحيّ السفارات في الرياض لمدة أسبوع مقسم بين الرجال والنساء، لكن أوقف عرضه إلى أجل غير مسمى، قبل أن يكمل دورة الأيام السبعة! ولا غرابة في ذلك، فالإبداع السعودي محتاج إلى مظلة حكومية له تدعمه في الداخل والخارج، فالإبداع دائماً ما يكون بجهود ذاتية من المبدعين أنفسهم، لأن التشدد الديني والمد الاحتسابي الذي يقتحم مكاتب المسؤولين للإنكار، يجعل مبدعينا يغردون خارج السرب الوطني، وقد تعايشنا مع هذا الواقع المرير، لكن سنظل ندين كثيراً بالشكر والتقدير للذين يحتوون مبدعينا خارج حدودنا، فلا ريب أن السينما ستلحق بالغناء، فعلى الرغم من أننا أكثر شعوب الخليج العربي استهلاكا للأغنيات والموسيقى، ومطربونا يتصدرون المشهد الغنائي العربي، وهم أكثر إنتاجاً فنياً وإبداعياً، وأكثر من يدعون لإقامة الحفلات والمهرجانات الغنائية، بل إن السعوديين يمثلون أكثر الحاضرين في حفلات مطربينا في دول الخليج بل وفي العام، يظل الغناء والموسيقى من المحرمات. أخيراً، فيلم وجدة نقلة نوعية للسينما السعودية، بكثافة لغته السينمائية التي صورت واقعنا بصدق، فجعلتنا نرى أنفسنا في مرآة كبيرة تشير إلينا قائلة هؤلاء أنتم، على الرغم من غياب دور العرض، ورفض الاعتراف بالمنجز الإبداعي الوطني.