كل الناس "يسولفون"، وتصبح الأحاديث والسواليف بينهم مهمة، وربما تصل لمستوى الهواء والماء عند بعضهم، ومن طبيعة البعض أنه لايمكن أن يصبر ساعة أو ساعتين جالساً منفرداً مع نفسه، ولربما تضجر وشعر بالجنون، ولا يذهب هذا التضجر إلا بالسواليف مع أهله أو زملائه، أو المحادثات الهاتفية، أو مخاطبة العمال الذين يعملون في الشوارع والمحلات، ولا نستغرب إذا وجدنا أحدهم يسولف مع الأشجار وإشارات المرور!. الصمت والتأمل مشكلة! والمزاج للسواليف عند الناس عجيب، وغريب، وليس له طريقة أو وقت معين، ومع أن الناس مستهلكون للسواليف بهذا الشكل المخيف، فهل من الممكن أن تكون السواليف حالة استثمارية ومفيدة بدلاً من تضييع الوقت وإهداره؟ لا أشيع سراً إذا قلت إنني طوال خمس سنوات مضت كنت ارتاد المجالس والاستراحات وأماكن جلوس كبار السن في الشوارع والحارات الشعبية من أجل أن أحظى بالسواليف! ولكنها ليست سواليف للمتعة، بل كنت أجمعها في مذكرات، وانتهيت منها في مشروع متكامل لكتاب في "التاريخ الشفاهي" وجمعت كل تلك السواليف في أربعمئة صفحة فقط! ولو تركت نفسي على هواها لتجاوزت كثيراً من الصفحات، ولكن التخطيط ومسارات المنهج الذي اتبعته في الجمع والتمحيص والتدقيق جعلاني أكتفي بهذه الصفحات. هذه التجربة الشخصية أتمنى أن يستفيد منها كل الناس، خاصة إذا كانت (سواليفنا) ضرورية ولا نستغني عنها، فمن الممكن أن نستثمرها فيما يفيدنا ويحولها لمشاريع كتابية أو سيناريوهات أو أفلام أو مواقع أو ألعاب إلكترونية أو كتب رقمية أو أي منتج إبداعي يفيد الحالة الفكرية والثقافية، ولو تحمَّل بعض الناس على أنفسهم شيئاً في تدوين الحكايات والسواليف لأنجزوا أعمالاً جبارة سيكون لها قصب الريادة في المجتمع! ولكن الكسل أحيانا، واللامبالاة، والشعور بالنقد الاجتماعي، هو ما يجعل الشباب وخاصة من لديهم ملكات إبداعية يصرفون النظر عن أي فكرة أو عمل جاد في الحياة. كما أننا في هذا المجال لابد أن نستشعر أهم تجارب الثقافة العربية في تدوين "السواليف" والحكايات والأخبار، وهما تجربتان مهمتان ومؤثرتان: تجربة الجاحظ في كتبه: "البيان والتبيين، الحيوان، البخلاء..."، وتجربة أبي حيان التوحيدي في كتبه أيضاً، فهذان نموذجان ثقافيان تتبعا سواليف وحكايات مروية عن طبقات مختلفة من المجتمع، وصنفوها في موضوعات وأبواب وفصول رائعة تعد من أمتع ماوصلنا في خطاب النثر والبيان العربي، وليس هذا فحسب، بل إن الوعي بثقافة "الهامش" والطبقات المسحوقة اجتماعياً كان من صميم ملاحظات الجاحظ وأبي حيان التوحيدي، ولذلك فقد كانا موسوعيين وشاملين لأي نوع من الحكايات وبأي طريقة في السرد أو الألفاظ؛ شريفة كانت أم بذيئة، فالكاتب لايعتبر بمسألة "العيب الاجتماعي" لأنه لايعززه، وإنما يوثقه ليدرسه ويحلله. ولذلك فالمسألة ترتفع لوعي خاص وهو: أن السواليف والحكايات تحمل في ذاتها خطاباً ظاهراً ومضمراً، واليوم نحن في عالم يضج بثنائيتي؛ الشفاهية والكتابية في مجالسنا وفي مدوناتنا في مواقع التواصل، ولكن! هل سيرتفع الوعي بنا إلى أن ندرك ماهية ماتلقيه ألسنتنا وأفكارنا، ونلتقطها تدويناً، ثم تصنيفاً، ثم تحليلاً لخطابها الثقافي؟ الحالة العامة في عالم اليوم هي "بروز الشعبي" بكل تفاصيله وأشكاله القولية والفعلية والإبداعية، ومن المهم أن يواكب "بروز الشعبي" حالة نقدية ثقافية من الأذكياء واللماحين ومقتنصي الفرص سواءً من المنتجين أو الكتاب أو صناع الثقافة الجديدة، والنتيجة ستكون فتحاً جديداً لثقافة جديدة، وصناعة لأدب مختلف سيكون له دوره في التغيير والتجديد.