إن عرض 300 مليون سهم للاكتتاب العام سيجعل البنك شركة مساهمة عامة، وسيخضعه إلى مراقبة «مؤسسة النقد وهيئة سوق المال» مما يلزمه باتباع قواعد الحوكمة على الشركات بانتهاء سنة 2014 سيكمل البنك الأهلي التجاري وهو أكبر البنوك السعودية من حيث الموجودات ( 377 مليار ريال) أحد تحولاته المهمة والمفصلية في مسيرته كبنك منذ تأسيسه سنة 1953، أي بعد عام على تأسيس مؤسسة النقد العربي السعودي ( البنك المركزي) . وهو الجهاز الإداري الذي كان لابد من قيامه لتنظيم المعاملات المالية لدولة كانت تستكمل لنفسها بناء جهازها الحكومي من وزارات ودوائر مركزية ومحلية لتتناسب مع التطورات الاقتصادية التي ابتدأت تتسلل إلى المجتمع السعودي على إثر اكتشاف النفط، وتحول المملكة إلى دولة مصدرة، وما حمل ذلك من تفكيك عشوائي للاقتصاد التقليدي والانتقال إلى اقتصاد السوق، المتشكل آنذاك كنتيجة حتمية لخضوع السوق المحلية إلى علاقات إنتاجية متقدمة غزت البلاد مع شركات البترول القادمة من بلدان رأسمالية متطورة وراسخة في اقتصاد السوق الحر. فلم يعد التنظيم الإداري البسيط الذي كانت تدار به الدولة متناسباً مع هذه التطورات الاقتصادية ذات المحتويات الاجتماعية العميقة. لقد كان قيام البنك الأهلي آنذاك مؤشرا على حاجة السوق إلى بنوك تجارية تعمل وفق قواعد السوق الجديدة. فاقتصاد السوق لا يستطيع إكمال دورته المالية دون أن تكون هناك بيوت مالية كالبنوك والمصارف لضمان استمرار هذه الدورة دون انقطاع. فالطرق التقليدية في حفظ الأمانات أو في تمويل وتسهيل المعاملات التجارية المحلية والدولية لم تعد كافية لتغطية احتياجات السوق الذي أمسى أكثر تعقيداً مما كان عليه قبل اكتشاف النفط. لقد سبق قيام البنك الأهلي افتتاح فروع لبنوك أوروبية كان الهدف منها تسهيل المعاملات النقدية للحجاج القادمين من مستعمرات هذه الدول (كالبنك الهولندي الذي افتتح له فرعاً في جدة سنة 1926، حيث كان يعرف بالشركة التجارية الهولندية)، وليس لخدمة السوق وتلبية احتياجاتها المصرفية، كما قام بذلك البنك الأهلي التجاري. لقد أتاح تأسيس البنك كشركة عامة بعد اندماج شركتي صرافة (بن محفوظ والكعكي) في تلك الفترة المهمة من تاريخ البلاد أن يجعل من نفسه إحدى الركائز التي استند عليها كثير من رجال الأعمال المبتدئين لتنمية نشاطاتهم التجارية الصاعدة، وأن يلبي احتياجات مهمة نشأت واتسعت مع التغييرات البنيوية التي لحقت بالسوق، وبذلك يمكن ربط نمو البنك وتربعه على قائمة البنوك السعودية كنتيجة تلقائية لتفرده لفترة طويلة كبنك محلي وخاص، خدم ويخدم عائلات تجارية وأفرادا لهم وزنهم الكبير بين أصحاب الأموال والثروة في البلاد. كما أتاح له هذا التفرد أن يكون عصياً على المنافسة في أكثر من موقع ومجال، فتعززت مواقعه وفرصه السوقية وهو ما انعكس على أرباحه التي لم يحقق مثلها بنك محلي آخر. ولكن ذلك لم يمض دون ثمن، وكما يحدث في معظم الشركات (البنوك) العائلية، واجه بعض المشكلات المالية والقضائية مع أطراف خارجية، إلا أنه استطاع تجاوزها في عام 2002 بعدما أعدم بعض الديون من سجلاته، مما مكنه من إخراج قوائمه المالية باعتماد المحاسبين والمدققين القانونيين. لم يكن البنك الأهلي الوحيد الذي عانى من هذا النوع من المشكلات. لقد شكلت الطبيعة العائلية لملكية البنك عائقاً كبيراً أمام استمراره كعملاق البنوك السعودية في ظل تعمق قواعد الاقتصاد الحر وتأثيرات العولمة على الحياة الاقتصادية السعودية، وهو ما دفع بالمرحوم خالد بن محفوظ، بعد وفاة والده «مؤسس البنك» في منتصف التسعينيات إلى شراء حصص أشقائه وعائلة الكعكي، وتحويله في سنة 1997 إلى مساهمة مغلقة بعد أن باع نحو 20 % من رأسماله إلى عدد من المستثمرين السعوديين بمبلغ 1.8 مليار دولار، وبقاء ملكية حوالي 80% من رأسمال البنك دون تغيير. إلا أن هذا الوضع لم يستمر طويلا، فقد قام صندوق الاستثمارات العامة في 1999 بالاستحواذ على 50 % من أسهم البنك و10% اشترتها مؤسسة التأمينات الاجتماعية، وبعد ثلاثة أعوام قامت العائلة ببيع ما تبقى لديها من أسهم لنفس الصندوق، الذي أصبح بنهاية 2002 المالك الأكبر لهذا البنك العريق. لقد بقيت القيمة الفعلية لهذه الصفقة غير معروفة للجمهور حتى الآن، ولكن من المؤكد أنه لولا السيولة النقدية التي دخلت في خزينة الدولة جراء التحسن في أسعار النفط لما تمكَّن الصندوق من القيام بهذه الصفقة، التي يمكن القول إن إنجازها يتماشى مع السياسات الرأسمالية الحكومية من حيث إنه بنك تجاري يعمل ضمن قوانين السوق الحرة لقد كانت إجراءات ضم البنك الأهلي التجاري إلى القطاع الحكومي مشابهة لما قامت به الحكومة السعودية، حينما أتمت صفقة شراء شركة البترول (أرامكو) دون اللجوء إلى التأميم، كما جرى في بعض البلدان النامية، التي أدت إلى جعل القطاع الحكومي السعودي من أكبر وأغنى القطاعات الحكومية في المنطقة، وأتاح للحكومة السعودية الحصول على كامل العائدات من بيع النفط السعودي، وهو ما ساعدها على تأسيس «سابك»، التي أصبحت الآن أحد عمالقة الصناعات البتروكيماوية في العالم. إن عرض 300 مليون سهم من أسهم البنك للاكتتاب العام سيجعل البنك شركة مساهمة عامة، وهذا ما سيخضعه إلى المراقبة من جهتين «مؤسسة النقد وهيئة سوق المال» مما يلزمه باتباع قواعد الحوكمة التي تفرضها هيئة سوق المال على الشركات المساهمة، وسيتيح للمساهمين الجدد نظرياً أن يكون لهم ممثلوهم في مجلس الإدارة. إن فصل الملكية عن الإدارة هو من النتائج الإيجابية التي تحققت بعد تحوُّل البنك إلى شركة مساهمة مغلقة، وهو ما يجب أن يتعزز الآن بعد هذا التحول في نوعية الشركة، إلا أن دخول ممثلين جدد لمجلس الإدارة بعد تحول البنك لمساهمة عامة دون موافقة المساهمين الكبار «صندوق الاستثمارات» أمر غير ممكن، ولم يحدث أبداً في جميع الشركات المساهمة، كما أن توزع 300 مليون سهم المزمع طرحها خلال الأسابيع القادمة بين عدد كبير من المكتتبين الصغار سيؤدي من جهة أخرى إلى غياب الصوت الواحد الممثل لهؤلاء الملاك الجدد الذين سيبقون طوال الوقت تحت رحمة كبار المساهمين الذين يتحكمون في سياسة الشركة كما يرتؤون. ومن جهة أخرى سيسعى أقوياء المستثمرين «المساهمين» الجدد لتملك حصة كبيرة من أسهم هذا البنك ذي الأرباح الكبيرة والمكانة المؤثرة في السوق السعودية، عن طريق دفع صغار المكتتبين لبيع ما سيخصص لهم من أسهم عبر ممارسة مختلف الضغوط والإغراءات، مما سيجعل ملكية هذا البنك تنحصر بين الدولة وهوامير السوق المالية.