ليست وظيفة العالم إنقاذ المدن المحاصرة. على العكس تماماً. فـ»العالم» مُمثلاً بقواه المؤثرة، هو الذي يزج المدن في حالات حصار ميؤوس منها لتكون مهمته بالضبط هي التفرج على المحاصرين يبادون على أيدي أعدائهم. قبل أسابيع قليلة، مارس العالم وظيفته هذه ووقف صامتاً أمام مذبحة رهيبة تعرض لها أهل غزة المطوقون منذ أعوام عدة من الشقيق ومن المحتل سواء بسواء. كانت معدلات الضحايا المدنيين اليومية تزيد على المئة. استعرضت الشاشات أشلاء الأطفال والأطراف المبتورة والرؤوس المهشمة بفعل الآلة الوحشية الإسرائيلية. وفاق الدمار الوصف وأتى على ما يشبه البنية التحتية التي أشادها الغزيون متحدّين صعوبات خارقة. وباستثناء تظاهرات محدودة الأهمية والأثر وبعض التحركات في الأوساط الأكاديمية واليسارية، التزم العالم اللامبالاة والتجاهل. انتهت الحرب وبقي الحصار. في رام الله 2002 وسراييفو 1992-95 وبيروت 1982، كانت الحالات متشابهة. العالم، ببساطة ووعي، لا يريد التدخل. المأساة الإنسانية لا تعنيه والحسابات السياسية الباردة تتولاها نخبة (في الدول الديموقراطية) أو طغمة (في الدول المشابهة لدولنا)، تُحسن إدارة العلاقات العامة والتوجيه الإعلامي وتسويق المواقف. ومن السهولة بمكان إلقاء اللوم على المحاصَرين وتحميلهم وزر الخطايا التي أفضت إلى وقوعهم بين براثن الوحوش المهاجمة. فياسر عرفات، على سبيل المثال، فجّر انتفاضة لا أفق سياسياً لها. ومسلمو البوسنة يطالبون باستقلال لا يستحقونه، ورعونة منظمة التحرير وتورطها في الحرب الأهلية استدرجا إسرائيل إلى اجتياح لبنان وأهالي غزة رضوا بسيطرة «حماس» عليهم ومكنوها من تحويل القطاع إلى مقر للعمليات الإرهابية. واليوم نسمع تبريرات مشابهة في شأن كوباني/ عين العرب. هناك من يُلقي اللوم على سياسات حزب الاتحاد الديموقراطي «بي واي دي»، (الجناح السوري لحزب العمال الكردستاني) منذ اندلاع الثورة السورية. فالحزب، بحسب هؤلاء، لم يتخذ موقفاً واضحاً من نظام بشار الأسد، ومارس التسلط الفئوي حيث استطاع، فشكّل الهيئات الإدارية والأمنية من الموالين له وأبعد منافسيه مستخدماً كل الأساليب القمعية، وساهم بإدراك أو من دونه في تعزيز النزعات القومية الشوفينية عن العرب والكرد. وعندما ظهر «داعش»، كان الجوار العربي للمناطق الكردية في حال استياء من الحزب وسياساته وسلوكه. واضح أن هذه الصورة تبسيطية وأحادية الجانب ولا تعكس التعقيدات والصعوبات التي واجهتها القوى الكردية المختلفة منذ 2011، ولا المناخات التي أفضت إلى تصدر الـ»بي واي دي» المشهد الكردي السوري بعد تصاعد الخطاب المذهبي والتحريضي الذي دشنه نظام الأسد واستجابت له شرائح واسعة من المعارضة. لكنها تنتمي إلى «أدبيات» لوم المُحَاصَرين وتفهم دوافع المحاصِرين. المشهد الأعرض يُبرز لاعبين أشرس وأعنف وعلى استعداد للضرب تحت الحزام لتحقيق أهدافهم وأزمات أخطر حتى من سقوط مدينة ترمز إلى التعدد والتنوع. هناك الصراع الكردي- التركي وامتداداته العابرة للحدود، ومسألة استقلال إقليم كردستان في شمال العراق والعلاقات العربية –الكردية التي تزداد سوءاً بدل أن تجد علاجاً لها. عليه، سيكون سقوط كوباني، إذا تمّ، مأساة إضافية لشعوب هذه المنطقة تفاقم، ليس العداوات القديمة والمستجدة فيها فقط، بل خصوصاً درجة إمساك القوى الإقليمية والدولية بمصائر الشعوب ومستوى النفاق السياسي وهو سمة مشتركة عند كل المتفرجين على سقوط المدن المحاصرة.