الأطفال حالة خاصة في المجتمع. فهم من جهة ينتمون لفئة المعتمدين اعتمادا كليا على الآخرين. الأطفال الرضّع مثلا يموتون إذا لم يجدوا عناية من آخرين. مع تقدم العمر والخبرة يبدأ الطفل بالاستقلال، ولكن الإنسان من أبطأ الكائنات الحية تحقيقا لهذا الاستقلال. يبقى الأطفال لسنين طويلة معتمدين بشكل رئيس على آخرين للقيام بشؤون حياتهم الأساسية. من جهة أخرى الأطفال كائنات في طريقها للاستقلال ففي نهاية المطاف الطفل الصحيح صحيا غالبا ما يستقل بذاته ويبدأ بالاعتماد على نفسه في شؤون حياته ويصبح قادرا على اتخاذ قراراته وتحمل مسؤولية تلك القرارات. إذن الأطفال من جهة عالة على غيرهم وعاجزون عن القيام بشؤونهم الخاصة، ومن جهة الأخرى هم في الطريق للاستقلال والمسؤولية. هذا ما يجعل من الأطفال حالة مختلفة عن العاجزين لأسباب صحية باعتبار أن الرضيع عمليا عاجز تماما عن القيام بشؤونه الخاصة كالمعاق ذهنيا إلا أن الطفل يحمل إمكان تجاوز هذه الحالة. هذه الإمكانية تعني اختلافا ضروريا في طريقة التعامل مع الأطفال. الأطفال في الأخير حالة ثالثة تقع بين القادرين على تدبير شؤونهم الخاصة وبالتالي تحمل مسؤولية ذواتهم وبين الفئة العاجزة لأسباب قاهرة عن القيام بتلك المهمة. هذا التفريق له معنى أساس عند النظر لحقوق الأطفال. من جهة المستقلين بذواتهم تكون حقوقهم لهم بالأصالة بمعنى أنهم يتولون القيام بشؤون حقوقهم بأنفسهم. الإنسان البالغ مثلا له الحق في السفر من مدينة إلى مدينة أخرى في الأحوال الطبيعية. قرار السفر هنا يتخذه الإنسان بنفسه والقانون يتعامل معه على أنه استحقاق لا مبرر للاعتراض عليه من ناحية المبدأ. في المقابل البشر العاجزون لأسباب قاهرة يستحقوق حقوقهم بالنيابة. بمعنى أن حقوقهم تتم من خلال إشراف رعاة ووكلاء عليهم. الإنسان المعاق ذهنيا لدرجة حادة جدا مثلا لا يملك حق السفر السابق ويبقى الاستحقاق في يد المسؤول عنه. هذه الحالة تجعل من التعامل مع موضوع حقوق الأطفال حالة لها طبيعتها الخاصة. باختصار يصبح السؤال هو: كيف تتعامل مع حقوق الأطفال آخذا بعين الاعتبار هاتين الحقيقتين: أنهم غير قادرين على تحمل مسؤولياتهم وأنهم في طريقهم لتحمل مسؤولياتهم؟ في التربية هذه العملية تستوجب معاملة دقيقة تنطلق من الاكتفاء بالحدود الدنيا من السيطرة والتحكّم، وفتح المجال للقدرة التي تنمو يوما بعد يوم لتجعل الاستقلال ممكنا وواقعا. حديثنا اليوم عن الحقوق وليس عن التربية، ولذا سأستعرض نظريتين لتأسيس معنى الحقوق وأثره على فهم حقوق الأطفال. النظرية الأولى هي نظرية الإرادة والاختيار والثانية هي نظرية الرعاية والمنفعة. هاتان النظريتان تحاولان الإجابة عن هذا السؤال: ماذا يعني أن يمتلك إنسانا ما حقا؟ نظرية الإرادة والاختيار تنظر للحق على أنه ممارسة محمية للإرادة والاختيار. الحق هنا يجعل من صاحبه كائنا ذا سيادة على مجموعة من الاستحقاقات. بهذا المعنى أن تكون صاحب حق يعني أن تمتلك القوة بأن تحمّل إنسانا آخرا أو مؤسسة ما أو تعفيهما من واجب معين. بمعنى أنه لو كان للإنسان حق التعليم فهذا يعني بناء على هذه النظرية أنه له الحق أن يمارس الاختيار بأن يجعل المدرسة أمام واجب تدريسه من عدمه. في المقابل نظرية الرعاية تنظر لامتلاك الحق على أنه يعني أن يمتلك الفرد فائدة ومنفعة معينة تجعل لديه القدرة على أن يجعل من تحقيق تلك الفائدة واجبا تقع مسؤولية تحقيقه على جهة أخرى. مثال التعليم السابق سيكون كالتالي: معنى أن يمتلك الفرد حقا للتعليم يعني أن لديه استحقاق منفعة التعليم مما يجعل الجهة المسؤولة عن تقديم التعليم أمام واجب تحقيقه. الفرق الناتج عن هذين التصورين له أثر على حقوق الأطفال. بحسب النظرية الأولى وباعتبار أن الأطفال خصوصا في أيامهم الأولى لا يملكون القدرة على اتخاذ قرارات أو ممارسة إرادة حرة فإنهم خارج دائرة الحقوق على الأقل من الدرجة الأولى. طبعا دعاة هذه النظرية لا يقولون بأن الأطفال ليس لهم حقوق ولكنها تقول إن حقوقهم تصبح امتدادا لحقوق والديهم وليست حقوقا مستقلة. في المقابل؛ النظرية الثانية، نظرية النفع، ترى أن الأطفال مستحقين بشكل مباشر لحقوقهم باعتبار أننا نعلم أن لهم منافع أساسية تفرض على جهاة أخرى واجب تحقيقها. من مميزات نظرية الإرادة أنها فعلا تشير إلى العلاقة القوية بين الحقوق والإرادة والاختيار، ففي الأخير الأفراد هم من يدفعون بحقوقهم كي تتحول إلى واجبات على آخرين لكنها في ذات الوقت تفشل في تفسير أن هناك حقوقا لا يمكن التنازل عنها. على سبيل المثال حق الحرية لا يملك الفرد التنازل عنه. لا يملك أحد الحق في تحويل ذاته إلى عبد لإنسان آخر بمعنى أنه لو فعل ذلك فإن فعله لا يعني أن واجبا ما قد وقع على عاتق جهة أخرى لتنفيذه. نظرية النفع أيضا تتميز بأنها تثبّت الحقوق بغض النظر عن قدرة أصحابها على اتخاذ القرارات حيالها مما يجعلنا مع حقوق تشمل الجميع ولكنها في الوقت ذاته تواجه صعوبات في تفسير أننا أحيانا نعتقد أن لنا نفعا في أمر معين دون أن يكون لنا استحقاق له. مثال ذلك: للزوج نفع كبير في أن تحصل زوجته على استحقاقاتها المالية من جهة عملها ولكن هذا لا يعني أن له الحق شخصيا في تلك الاستحقاقات. في المقالات القادمة سأحاول التفكير في حقوق الأطفال بناء على تلك النظريات وأثر ذلك على معنى ودلالات حقوق الأطفال وعلاقة ذلك بالمؤسسات والأفراد الآخرين.