هو هكذا ينثر الحكمة حيثما حل أو هكذا يخيل إليه. فقد شاءت الأقدار أن ينتقل بقلمه من صحراء العرب إلى فرنسا في نهاية القرون الوسطى حينما ثار الشعب وهاجم وماج مطالباً برفع الظلم وبحقوقه. ولقد كان أهم مايميز تلك الفترة هو تحالف السلطة السياسية الفرنسية مع السلطة الكنسية في قهر الناس وفرض الضرائب عليهم وتبرير ذلك دينياً. كان شعب فرنسا المسكين - في وجهة نظر حكيمنا - يعتقد أن التخلص من حاكمه الظالم ومن تسلط الكنيسة سيقوده للعدل الاجتماعي والرخاء ولرفع معاناة الشعب الفرنسي وفقره. يقول حكيمنا ولكن فرنسا أخطأت فقد دخلت في فوضى عارمة وتعاون اللصوص ورجال الشرطة في سرقة الناس وترحم الناس على سلطة الامبراطور وسطوة الكنيسة. ثم نشبت الحروب الدينية بين البروتستانت والكاثوليك. ودخل القساوسة في مسلسل الاغتيالات. وحكيمنا ينذر الشعب الفرنسي من الشرور القادمة. ثم جاءت حقبة الرعب والقتل والإرهاب حتى تمنى الناس لو خسفت بهم الأرض أو طاروا إلى السماء. وحكيمنا يردد أما كان أولى بكم أيها الفرنسيون أن ترضوا بواقعكم لتجنبوا أنفسكم هذا العناء والجهد والدماء والفقر الذي لم يكن له سابق في التاريخ الفرنسي. ظل حكيمنا يردد حِكَمه السنة تلو السنة ولأنه لم يكن هناك بصيص أمل فقد صدقه بعض الفرنسيين ولكن الزمام أفلت وعجلة التغيير لا تتوقف برغم سوء التغيير حينها. وبعد ثماني سنوات من كتابات حكيمنا أتاه الأجل فمات وكان يقينه الوحيد حينها أن الفرنسيين حفروا قبورهم بأيديهم ودمروا مستقبل بلادهم. دفن الحكيم واختلف الناس حوله هل يمجدونه أم يتناسونه. ولكن تسارع الأحداث أنساهم الحكيم ونسيت عباراته التي كان يرددها. ولم يسمع الأمريكيون ولا غيرهم بذلك الحكيم ولكنهم سمعوا وتأثروا بالشعب الفرنسي الذي ثار على الظلم وأصبح أحد المعلمين الأوائل. لو اقتنع الفرنسيون في رؤية حكيمنا التي كان يؤيدها الواقع المأسوي بعد الثورة وعادوا لما كانوا عليه لربما رأينا للكنيسة اليوم أشداقاً ومخالب تترك آثارها في جلود الفرنسيين ولتقاسمت مع السلطة خيرات فرنسا. ولكنا نستنير بالفنانير ونسافر على الحمير. فقد مات حكيمنا ولم يدرك ما تلا العشر العجاف التي عاش بعضها من مئاتٍ سمانٍ لم يشهد لها الفرنسيون مثيلاً. الغريب أن ذلك الحكيم بُعث من جديد وفي أكثر من موطن ويردد العبارات ذاتها التي كان يرددها عام 1789م.