في كتابه «مواقف من أجل التنوير»، ينقل الكاتب التونسي محمد الحداد عن شكيب أرسلان قوله: «ترسَل الطائرات فوق القرى أو المدن، فتقذف عليها أحمالاً من الديناميت، تنسف الديار وتقتل النساء والأطفال، حتى لو لم يكن لأحد من أهالي تلك المدن والقرى أدنى صلة مع الثائرين. إنما هو الإرهاب، وإلقاء الرعب في القلوب، وإجراء المثلات بهؤلاء ليخشى أولئك. وقد وجدت دول الاستعمار هذه الطريقة أقرب منالاً وأقل نفقة من تجريد العساكر وتعقب الثوار في مكامنهم. ومع ذلك تدعي هذه الدول أن استخدام الوسائل الجهنمية وقتل النساء والأطفال إنما هما لأجل المدنية». من الواضح أن قوات التحالف وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية، والتي بدأت الحرب على الدولة الإسلامية في سورية والعراق، تستدعي بسلوكها التاريخي في العالم، وسلوكها المتجدد في سورية تحديداً، الكلام السابق لشكيب أرسلان، ذاك أن مدنيين سوريين في بعض المناطق التي طاولها القصف على الإرهاب لم يكونوا بمنأى عن نيران «محاربة الإرهاب»، وإن لم يكونوا على علاقة بتنظيم الدولة الإسلامية. ومعاذ الله أن يكون الكلام هنا هو من ضمن كلام كثير، ممانع تحديداً، يصب فقط في خانة نقد السياسات الأميركية والحملات العسكرية التي قادتها القوى العظمى في العالم في أماكن شتى منه، وإنما هو للقول إن لا جديد كما هو متوقع في إطار حملة جديدة على الإرهاب قادتها الولايات المتحدة بعد حملات سابقة، لا تزال مفاعيلها ماثلة في العراق مثلاً منذ 2003، لا بل منذ 1991، بانتظار مفاعيل ارتدادية لها في سورية بعد الحملة العسكرية الحالية وخلالها، على رغم أن عدد المدنيين المحتمَل سقوطهم في الحملة الراهنة أقل كثيراً من عدد هؤلاء المدنيين الذين سقطوا بنيران «الحرب على الإرهاب» التي شنّها النظام السوري على الشعب الثائر في وجهه منذ 2011، وتستمر حتى اليوم داخلياً، مع هرولة أسدية للالتحاق بركب الحملة العالمية الجديدة، وإن عبثاً... وغني عن القول إن الموقف من قتل المدنيين استنكاراً ورفضاً هو تحصيل حاصل، ومسألة مبدئية، كائنةً ما كانت أعدادهم، وكائناً من كان قاتلهم، ولذا سيبدو من نافل القول اعتبار الحملة الأميركية والدولية على الإرهاب في سورية موضع إدانة على رغم أنها طاولت مدنيين وتنظيمات إرهابية قتلت من هؤلاء المدنيين العدد الأكبر، وشردتهم وصادرت بيوتهم وحياتهم وثورتهم، فيما اقتصر قصف الطيران السوري على هؤلاء المدنيين من دون أن يطاول داعشياً واحداً إلا ما ندر. معارك النظام السوري مع المدنيين السوريين هي متن حملته الهلامية على الإرهاب، بينما تستوي محاربته لبعض الفصائل العسكرية الإسلامية، وتحديداً تلك القريبة من فكر القاعدة ونهجها هامشاً لا يقارن قتلاه من الإرهابيين بالعدد الكبير من السوريين، المدنيين وغير المدنيين، والذين سقطوا فقط لأنهم وقفوا في وجه النظام. ليس للكثيرين ممن قتلهم طيران بشار الأسد «أدنى صلة بالثائرين» بالمعنى العملي، وإنما كان انتماؤهم إلى بيئات حاضنة للثورة هو الدافع لكي يكونوا في مرمى طيران «الحرب الأسدية على الإرهاب»، وهي بيئات اجتماعية امتدت فيها الثورة بشكل أكبر من امتدادها في بيئات اخرى، لأسباب خارج إطار موضوع هذا النص. ومن جهة ثانية، ليس لأي أحد من المدنيين الذين قتلهم الطيران الأميركي وقوات التحالف العربية والدولية «أدنى صلة بداعش أو بجبهة النصرة»، ولا «أدنى صلة بالنظام» بالمعنى العملي والعسكري بطبيعة الحال، طالما أن النظام ليس من الأهداف الموضوعة للحملة إياها، ولا يبدو انه سيكون هدفاً في المدى القريب. واستطــراداً، وفــي ما خص ضرب النظام الســـوري واستهدافه بالعمليات العسكرية الحاصلة ضـــد الإرهاب، فالمسألة تكاد تكون أبعد من التبسيط الأيديــولوجي القــائم على «السيادة الوطنية»، منسوبـــة تلك السيــادة إلى سيادة النظام وليس سيادة أي سوري آخر، باستثناء من يربطون ويدمجون بين سورية والنظام، أو بين سورية وسورية الأسد، ومن بين هؤلاء، وللمفارقة، «معارضون» يطيب لبعضهم أن يضع نفسه تحت عنوان «المعارضة الوطنية في الداخل»، أو في الخارج أحياناً، وهي «معارضة» لا يرى بعضها إلى المعارضة الحقيقية والثورة إلا فانيلات حمراء مستوحاة من زمن شيوعي آفل شأن زمن النظام، بحيث يكون ترقيع الثوب الوطني المهترئ لكثرة الحديث عن السيادة مستمداً من الممانعة المنجدلة مع الوطنية علناً، ومع النظام بالسر. لكن التحالف الدولي ليس في صدد إسقاط النظام بالعمل العسكري، أقله في المدى القريب. وهو، وتحديداً الولايات المتحدة، لا يحمل مقومات ودوافع ووعوداً يمكن أن يبنى عليها خلاص ما للشعب السوري من سائر جلاديه، وعلى رأسهم نظام آل الأسد. وعلى مدى أربع سنوات من عمر الثورة السورية، لم يسجل لهذا المجتمع الدولي أدنى تحرك يمكن أن يوقف المقتلة، ما عدا الكلام والتشديد على أن «الأسد فقد شرعيته»، من دون تقديم أي حل أو دعم لقضية السوريين المحقّة. كما لم يعرف عن الأميركيين تحديداً وعلى مدى عقودٍ خَبِرتهم شعوب العالم الثالث فيها، أدنى دعم لقضايا هذه الشعوب، وإنما كان الغطاء الدولي والأميركي بمثابة ضوء أخضر لهذه الأنظمة ومنها النظام السوري، لكي تفعل فعلها التنكيلي بشعوبها وبالشعوب المجاورة بحيث يصبح النظام السوري مثلاً لاعباً إقليمياً قوياً بغطاء دولي ومِن على جثث السوريين واللبنانيين والفلسطينيين. وبناء عليه، يكاد يتساوى التحالف الدولي والنظام السوري في محاربتهما للإرهاب، لولا أن النظام السوري لم يضرب الدولة الإسلامية كما فعل هذا التحالف. أما عن «المدنية»، التي غالباً ما تكون محمولاً من محمولات القصف الجوي على «المدنيين» على ما كتب أرسلان، فهي العنوان الفضفاض الدائم لأي حرب من حروب بلدنا والمنطقة على ما يبدو، ولحروب القوى العظمى فيها. فالأميركيون يدعمون دولة مدنية، والنظام يقول إنه حققها طوال أربعين عاماً من الحكم العائلي، لا بل وصل الأمر إلى حد أن الإخوان المسلمين ادّعوها وطالبوا بها: «الدولة المدنية»، فيما يترنح البلد أكثر فأكثر لأسباب كثيرة ليـــس الوحيد بينها تأخر أو غياب تدخل دولي، بما فيه التدخل العسكري. تدخل دولي فاعل وحقيقي في عالم يشعر بمسؤولياته ويطوي صفحة بائسة من دعمه لأنظمة إرهابية لا تستقيم أي مصالحة بين شعوبها إلا بزوالها. تدخل عسكري شبيه بالتدخل الحالي ضد «داعش»، إلا أنه لا يقتصر عليها، ويكون هدفه ضرب الإرهاب بكل مواقعه في المنطقة وعلى رأسها إرهاب نظام السلالة الوراثية الذي يحكم سورية. هذا حلم لا مكان له إلا في عالم لا يكـــون الــــتدخل الدولي فيه انتقائياً، ولا يدعـــم اسرائيل سياسياً وعسكــرياً على حـــساب الشـــعب الفلسطيني وحقـــوقه، ولا يغـــض الطــرف عن النظام على حساب الشعـــب السوري، ولا يضرب إرهاباً ويستثني إرهاباً مجــاوراً له كما يحدث في حملة اليوم على الإرهاب في سورية والعراق. وهذا العالم الأخلاقي هو المستحيل بعينه. لكننا نكتب ونفكر خارج السياسة اليومية، وإلا ماتت الكلمات وغرقت في دوامة اليومي وحساباته. ثم، وبمناسبة الحديث عن هذا العالم المستحيل، ألم يثر الشعب السوري والشعوب العربية أساساً في وجه المستحيل؟ ومن قال إن العبرة في النتائج، طالما أن عالمنا اليوم يبدو وسيبقى لفترة غير معلومة على ما هو عليه؟