مفهوم القيم ولد بولادة الاجتماع البشري.. وذلك لأن الحياة المشتركة بين الناس ليست ذات طبيعة واحدة.. إنها مفترق إرادات ورغبات ومصالح فردية تصل إلى حدود التناقض وحتى إلى الصراع والتنافر الأمر الذي يستدعي ضرورة تنظيم ما.. والتنظيم يعني الانصياع لقيم محددة يسير المجتمع على ضوئها. لذلك تعددت الشرائع السماوية والقوانين الوضعية.. كذلك الآراء الفلسفية والقانونية.. وراح الإنسان من خلالها وعلى امتداد التاريخ يبلور ويطور تلك القيم ويبني ساحتها درجة تلو أخرى إلى أن وصلت إلى ما هي عليه في عصر التنوير ومن ثم الثورات في فرنسا وبريطانيا وأميركا.. ومازال سلمها يتصاعد ويرقى برقي الوعي البشري وحاجاته الحضارية كأن يحيا في واحة من الاطمئنان على حريته وكرامته كإنسان بالولادة.. وستبقى هذه الحقوق متنامية دائما وإن أنكرتها بعض البلدان الموصوفة بالتخلف. سلم القيم امتد عموديا منذ بدء التاريخ أو منذ وقوفه على قدميه ولكن فترته الربيعية الباذخة كانت عصر الأنوار إذ اكتسبت تلك الحقوق صفة الكونية وصفة البداهة ((فهي ليست هبة من أحد.. إنها جاءت من كون الإنسان إنساناً)). لم يستطع نيتشه بعدميته الظلامية ولا السائرون في متاهته، لم يستطيعوا أن يطفئوا قيمة واحدة من قيم التنوير ولكن جاء هذا الزمن الأعمى وبدأ بحجة محاربة داعش اطفاء قيم التنوير أو صنع خريف لها. طبعا أنا لا أتكلم عن عالمنا الثالث المجدب من حقوق الانسان والذي يحتاج إلى سنة ضوئية للتمتع بها لأنها كما يقولون ((ترتبط بالتصور للإنسان في كل مجتمع)) وإذا سألنا ثقافتنا ما هو تصور مجتمعنا للإنسان؟ أجابت بترمد الكلمات وتجمد الدموع، أنا أتكلم عن العالم الذي تبلورت وتطورت فيه هذه الحقوق والقيم وكيف راح يتنكر لها. لنضرب مثلا:- أخذ العالم المتحضر والذي بنى الديمقراطية وحقوق الإنسان في العصور الحديثة يتنكر لأهم حقين من هذه الحقوق وهما الحق الطبيعي للجنسية بمجرد الولادة وحق التنقل وهما ما راحت بريطانيا- وهي أعرق دولة ديمقراطية- تلوح بهما وتهدد بسلبهما من مواطنيها وهذا ما أرى فيه عدوانا على حقين طبيعيين من حقوق الإنسان. لكل دولة الحق بحماية أمنها ومن يعتد على هذا الأمن يجب أن يعاقب بما يقرره القانون، فليسجن- مثلا- مدى الحياة ولكن هذا أقل بشاعة وهوانا من سلب الجنسية أو المنع من السفر.