عندما تتراجع أسعار النفط نبدأ في الحديث عن بقية الملفات الاقتصادية، مثل الخصخصة وتوسيع دور القطاع الخاص، وعن التعاون الإقليمي، والالتفات للتكامل الاقتصادي بين دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية. وها هي أسعار النفط تتراجع، ولعله الوقت المناسب للحديث عن التنوع وعن التكامل الاقتصاديين. بالأمس كنت في الدوحة في رحلة سريعة، وسرني ما رأيت في المطار الجديد (مطار حمد الدولي)، وقبله نتابع جميعنا ومعنا العالم التوسعات المتتابعة في مطارات دبي، وكذلك الأمر في أبوظبي وقبلها البحرين، وذات التوجه التوسعي للنقل الجوي ستجده كذلك في مسقط. في المحصلة نجد أن دول مجلس التعاون تحتضن أعلى شركات الطيران نمواً، وأكثرها التزاماً بتوسعات مستقبلية في أساطيلها التي تغطي العالم من أقصاه إلى أقصاه. ولن أقول إن علينا أن ندمج هذه الشركات المتأججة حيوية ونشاطا لتصبح شركة واحدة، فالمنافسة هي العنوان الصحيح، إن لم يك الوحيد، للارتقاء بأي عمل. لكن ما سأقوله هو لماذا لا نصنع من دولنا الست سوقاً واحدة لخدمات النقل الجوي، أو لنقل سماء واحدة أو منطقة واحدة، بما يساهم في تعزيز قدرة الخطوط في الدول لنقل الركاب بأسعار منافسة من أي نقطة لأي نقطة داخل دول المجلس أو خارجه؟ ولعل كل ما هو مطلوب عقد اتفاقية تجعل إقليم الدول الأطراف في الاتفاقية مجالاً متاحاً للشركات المصرح لها، وهي الشركات المحلية المؤهلة. والقصد هنا يصبح لشركات الطيران الخليجية مجال جغرافي رحب، وهو عبارة عن كامل المنطقة الإقليمية للدول الست، وبالقطع فهذا سيعطي الشركات مجالاً أوسع للتحرك، وتصبح مطارات دول المجلس بطولها وعرضها مطارات محلية، بوسع الشركة أن تقرر أن يكون لها «منطلق» (hub) رئيسي في دولتها الأم ومنطلقات فرعية أو ثانوية في دولة أو دول أخرى من دول المجلس. ومزايا ذلك ليست خافية بل يمكن أن تقلب قواعد اللعبة رأساً على عقب لصالح شركات النقل الجوي الخليجية بما يجعل لها سطوة أكبر على السوق الأوربية والآسيوية على وجه الخصوص. وبالطبع فمن يفكر بطريقة تقليدية وضمن إطار الجغرافيا المحلية لن يقبل فكرة الدمج، ولكن عند التأمل قليلاً سنجد أننا نطبقها حالياً ولكن بالتدريج وبالقطارة؛ وتحديداً فتحت العديد من المطارات السعودية مدرجاتها لشركات طيران خليجية لتنقل الركاب، فما الذي يحدث هو أن تجمع تلك الشركات الركاب بأن تنقلهم «لمنطلقها» الرئيس في بلدها الأم، تمهيداً لنقل الركاب إلى وجهاتهم! السؤال: لماذا لا تصبح الخدمات في مطاراتنا عالية التنافسية من حيث الجودة والسعر بما يستقطب تلك الشركات ليس فقط لتفويج الركاب لنقاط التجميع في بلدانها بل للاستثمار والانطلاق من مطاراتنا المحلية المتناثرة في أنحاء المملكة، والأمر كذلك بالنسبة لبقية دول مجلس التعاون. والنقطة الأساس هنا أنه عوضا عن أن يكون لكل شركة طيران «منطلق» واحد كما هو الحال القائم، سيجعل لها الترتيب المقترح شبكة أو منظومة من المنطلقات (hubs) بما يمكنها من الاستفادة من مزايا النظام الشبكي الموزع من المطارات مقارنة بمركزية المطار الواحد الضاغطة التي تعتمد بالكامل على نقطة واحدة هي المطار في العاصمة! فضلاً عن أن الترتيب المقترح لن يقلل من بريق ووهج أي مدينة من مدن الخليج العربي الصاعدة بل سيعزز تنافسية حركة السياحة والترانزيت في دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية قاطبة. وتجدر الإشارة الى أن دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية لن تبدأ من نقطة الصفر في هذا المجال، إذ ما لا يعلمه الكثيرون أن هناك العديد من اللجان التي تجتمع دورياً للتنسيق فيما يتصل بالنقل الجوي على أكثر من صعيد. ولا بد من بيان أن تلك اللجان فنية تعمل منذ سنوات في مجال، ولها مقرراتها التي تعدّ نواة للتنسيق بين دول مجلس التعاون ليس فقط لفتح أسواق النقل الجوي بل لدمجها من ناحية، ووضع الاتفاقية الضرورية التي ستشبه من حيث الارتكاز والاهمية بالنسبة لدول مجلس التعاون، اتفاقية شيكاغو بالنسبة لصناعة النقل الجوي العالمية. النقطة الأساس هنا أن علينا، في مجال التكامل الاقتصادي الخليجي، التخلي عن فكرة بؤرة النمو لصالح منظومة النمو، لتصبح مدن الخليج لآلئ تتواصل وتتكامل شبكياً لتستوعب أي مستثمر مهما كانت استثماراته متنوعة، وأي سائح مهما كانت طلباته متعددة، فالتنويع الاقتصادي لن نحققه بالعزف المنفرد بل سيحصنه ويُمَكنهُ ويعززه «تخت» من العازفين المنسجمين السعداء بمجمل مهاراتهم التي تَبزّ تفرد كل منهم.