أول حرف ألف كُتب على (سبورة) مدرسة البنات أصبح سنبلة، بينما حرف الباء تحول حقلًا، والتاء جناحا.. ثم انتثرت الحروف فوق خارطة الوطن لتمسي غابات تستمطر الغيوم الوعود والوعول. ما يربو عن نصف قرن من تعليم النساء وسباق المسافات الطويلة مع المحبطات والمخذولات وحافري قبور الوأد. لاشيء يباهي به الوطن قدر أصابعهن التي امتشقت القلم ورسمت به مفتاحا سحريا، كان للمفارقة يفتح كل نقاط التفتيش التي تترصد بدربها. نصف قرن لم تتأخر أو تتلكأ وكانت تصل إلى الصف بخطوات صغيرة دؤوبة، رغم أن أجنحتها مابرحت في الصندوق، فإنها كانت مع نجمة الصبح تظل ترقب المنعطف بانتظار من يقلهما إلى مدرستها هي وحقيبة عارمة مكتنزة وفخورة، عندما تفتحها يمتلئ سقف الصف بهديل اليمام. مايربو عن نصف قرن من تعليم النساء هل تحققت نبوءة واحدة من تلك النبوءات الشريرة التي تنبأ الكهنة بها حول تعليم البنات؟ هل خفست الأرض وانطبقت السماء وعم البلاء؟ وتفشى الضياع والفجور والتهتك والانحلال؟ نصف قرن وها هي وزارة التعليم.. تتسعود بالكامل.. نصف قرن وها هن النساء يوضئن وجه الصحراء بترياق الحروف.. ويرددن للوطن بعضا من جمائله. وكم نعب الكهنة عن ضياع النشء والأسرة والشرف والفضيلة.. لنجد الآن أن أسر النساء العاملات من أنجح الأسر، فهن الجالبات دخلا إضافيا للعائلة تعفها عن الإعالة، وهن يتمتعن باستقرار وبحبوحة اقتصادية، وهن يحتضن أخا محتاجا أو أختا منكسرة أو عمة بعيدة محتاجة. هن اللواتي وعين القوانين وعسكرن المنازل بالانضباط فأتى الأبناء متفوقين يقطفون ثمار النبوغ. نصف قرن وها هن والوطن تستغرقهما مواسم الحصاد.. اقتربن من مواضع صناعة القرار، ومررت رسائلهن بندية وتسامٍ إلى مجلس الرجال الكبير. 50 عاما وما برحت الأبابيل تحوم حول الحقول.. وما برحت أكف غليظة تستمرئ الحجب والطمس، وما برحت مدارس البنات بأرقام تهيباً من الهوية والكينونة.. والوجه. 50 عاما وخطواتهن من وإلى المدرسة تعشب بها الطرقات وتهتز وتربو.. لاشيء يباهي الوطن به في يومه قدر تلك التي رسمت سنبلة في أول السطر فأصبح لاحقا حقولا من الحنطة.. أما السطر الثاني فكان مورداً وورداً وصفوفاً من نخيل ورمان.