لقد انتهى عصر الغذاء الرخيص وارتفعت أسعار الغذاء العالمية بشكل متتالٍ في السنوات الأخيرة. كانت المرة الأولى في عام 2008 حين ازدادت أسعار سلع زراعية رئيسية أكثر من ضعفين، ثم عام 2011 في أعقاب موجة حر اكتسحت "سلة خبز" البحر الأسود، ومرة أخرى عام 2012 على أثر أسوأ جفاف ضرب الغرب الأوسط الأميركي منذ نصف قرن. وأكثر من ذلك أن التقلب يحدث حول مستوى أعلى للأسعار. وعند كتابة هذه الدراسة التي أجراها مدير أبحاث الطاقة والبيئة والموارد بمؤسسة "تشاتهام هاوس"، روب بايلي، كان المؤشر الدولي لأسعار الغذاء لدى منظمة الأغذية والزراعة (فاو) أعلى بنحو ضعفي مستواه قبل عقد من الزمن. وتشير التوقعات إلى مزيد من ارتفاع الأسعار وتقلبها، نظراً إلى أن نمو الطلب العالمي يستمر في تجاوز العرض وأن المخزونات الغذائية تتعثر في التعافي، في حين تزيد سياسات الوقود الحيوي الوضع سوءاً. ومع تغيُّر المُناخ يزداد احتمال تراجع المحاصيل. هذه أنباء سيئة للبلدان المستوردة للغذاء، وقلة منها تعتمد على الواردات بالدرجة التي تعتمد عليها بلدان مجلس التعاون الخليجي، أي الإمارات والبحرين والسعودية وعُمان وقطر والكويت، التي تشكل وارداتها غالباً ما بين 80 و90% من الحاجات الغذائية. فهل يجب أن تقلق حكومات بلدان المجلس؟ الجواب القصير هو نعم، لكن ليس للأسباب التي قد نتوقعها. دعم الأسعار على الرغم من اعتماد بلدان مجلس التعاون الخليجي على الواردات، فإن ارتفاع أسعار الغذاء العالمية لا يشكل تهديداً مباشراً لأمنها الغذائي. ففي إمكان الشعوب الثرية تحمل ارتفاعات الأسعار. وهذا يتعارض بشكل صارخ مع الوضع في كثير من البلدان المجاورة الأكثر فقراً، حيث يمكن أن يؤدي ارتفاع أسعار الغذاء إلى اضطرابات وقلاقل. لقد اعتبر ارتفاع الأسعار الحاد عام 2011، على سبيل المثال، وأثره على البلدان الرئيسية المستوردة للقمح في شمال أفريقيا مثل مصر وتونس والمغرب، محركاً للمظالم الاجتماعية والاقتصادية الأوسع نطاقاً التي تطورت إلى ثورات "الربيع العربي". المشكلة بالنسبة إلى حكومات بلدان المجلس ليست أن الناس لا يستطيعون دفع المزيد لقاء حصولهم على الغذاء، بل احتمال ألا يدفعوا. فالسكان الخليجيون يترددون إلى أبعد الحدود في قبول أسعار أعلى، ولذلك استجابت الحكومات بمجموعة من الإجراءات الخاصة لإرضاء السكان الذين ربما انتابهم القلق. وهذه تشمل دعم الأسعار وضوابط للأسعار وزيادات للأجور. ونجحت هذه الإجراءات، ولكن لم يكن ثمنها زهيداً. فقد ارتفع الإنفاق الاجتماعي في بلدان مجلس التعاون ارتفاعاً حاداً، أولاً بعد الأزمة الغذائية عام 2008، ومن ثم بعد الارتفاع الحاد للأسعار عام 2011 و"الربيع العربي". ونتيجة لذلك، تحتاج الحكومات إلى عائدات نفطية أعلى لتغطية إنفاقها. ما زالت بلدان المجلس في وضع يحقق الربح، لكنها عرضة لهبوط في أسعار النفط. ولا يمكنها السعي على الدوام إلى تحقيق أسعار أعلى للنفط من دون أن يترافق ذلك مع تراجع الطلب الدولي. لذلك يقتضي الأمن الغذائي على المدى الطويل في دول مجلس التعاون أن تعمد الحكومات إلى احتواء الإنفاق الاجتماعي المتضخم وتنويع اقتصاداتها وتوسيع قاعدة عائداتها. نقاط اختناق التهديد الأكبر للأمن الغذائي في بلدان المجلس لا يتعلق بأسعار الغذاء، وإنما بتوفير الغذاء، أي ألا تكون الحكومات قادرة، خلال فترة ما، على تأمين إمدادات كافية من الغذاء بأي ثمن. وبلدان المجلس محاطة بمجموعة من "نقاط الاختناق" البحرية، أي ممرات مزدحمة ضيقة ومعرضة للتعطيل أو الإغلاق، جميع واردات الغذاء تقريباً يجب أن تمر عبر واحدة منها على الأقل. قناة السويس في مصر هي الأكثر حيوية، وقد حاول مسلحون العام الماضي إعاقة الإبحار فيها بإطلاق قنابل صاروخية على سفينة حاويات عابرة. ويمُر عبر القناة أكثر من 80% من واردات القمح والحبوب الأخرى في طريقها من أميركا الشمالية وأميركا الجنوبية وأوروبا والبحر الأسود. ثم يجب أن يمر نصف هذه الواردات تقريباً عبر مضيق هرمز في طريقه إلى موانئ داخل الخليج. كما يستقبل هذا الممر المائي الحساس 80% من واردات الأرز من الهند وباكستان. وهو مهدد من وقت إلى آخر بالإغلاق من قبل إيران، وكانت آخر حادثة من هذا النوع عام 2012 رداً على عقوبات فرضها المجتمع الدولي. تأمين الإمدادات السيناريو الأسوأ لبلدان مجلس التعاون الخليجي هو نزاع إقليمي قد يؤدي إلى إقفال عدة نقاط اختناق لفترة طويلة. ولعل الاستعداد لمثل هذا الوضع الطارئ يفسِّر إلى حد ما قرارات حكومية بتأمين احتياطات حبوب استراتيجية تقارب إمدادات سنة أو أكثر على سبيل المثال. وفي إمكان حكومات المجلس أيضاً تعزيز أمن الإمدادات بالاستثمار في شبكة إقليمية من موانئ البحار العميقة على سواحل البحر الأحمر وبحر العرب، تربط بينها سكة حديد إقليمية تقام في مواقع استراتيجية. وهذا يساهم في تنويع البنية التحتية للواردات في المنطقة بعيداً عن الخليج الحساس، ويوفر للحكومات خيارات طرق إضافية في حال تعطلت نقاط الاختناق البحرية أو أغلقت. لكن اغتنام هذه الفرصة يتطلب تعزيز التعاون بين الحكومات. الاكتفاء الذاتي بالنسبة إلى حكومات المنطقة، الهدف الأكثر تضليلاً فيما يتعلق بالأمن الغذائي هو هدف الاكتفاء الذاتي، الذي يبقى بعيد المنال كما يُظهر التاريخ الطويل وغير الفعال للدعم الزراعي في بلدان الخليج. ويقدر أن دعم برنامج زراعة القمح في السعودية كلف خمسة بلايين دولار سنوياً أثناء ذروة نشاطه. وقد دفع انهيار منسوب المياه الجوفية الحكومة إلى التخلي عن إنتاج القمح تدريجياً، لكن الضغط على طبقات المياه الجوفية استمر، لأن المزارعين تحولوا إلى إنتاج الأعلاف لقطعان الأبقار المدعومة بدورها. وتستأثر الزراعة بما بين 80 و90% من استهلاك المياه في الخليج، محتكرة مورداً شحيحاً يمكن استخدامه بشكل أكثر إنتاجية في مكان آخر. الاكتفاء الذاتي جذاب ويمكن تفهمه، لكن يبدو أن قيوداً بيئية شديدة وسياسات اقتصادية قاصرة ستجعله غير قابل للتحقيق في الممارسة.